عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E سير قديسين

سيرة القديس مارون البار

سيرة القديس مارون البار 

اسبيرو جبور 

التوحّد في شرقنا

وإن كانت الرهبنة قد نشأت في مصر، إلا أنها سرعان ما انتقلت الى شرق المتوسط حيث عرفت ازدهاراً منقطع النظير. وتفنن النسّاك في أساليب النسك، لأن إنسان مشرقنا فرديّ. فابتكر العيش على الأعمدة، فإذا بنا نظفر بجيش من العموديين على رأسهم سمعان العمودي[1] مفخرة دنيا المسيحية الذي تقاطر إليه الناس من جميع أنحاء الإمبراطورية البيزنطية شرقاً وغرباً للاستشفاء وسماع المواعظ، فضلاً عن بلاد فارس وبدو الصحراء. فكان عموده خير منبر وعظ. 

وما زال ديره المهجور قائماً في منطقة دير سمعان في محافظة حب، هذه المحافظة التي حظيت بعناية العلماء عناية فائقة لاستخراج كنوز تاريخ مسيحي مجيد لم يبقَ منه سوى الأطلال[2] . والتفرّد السوري جعل التوحد أساس النسك قبل الأديرة المشتركة. وللتوحد أشكال. بعضهم عاش حبيساً لا يخرج إلا لقضاء حاجات. وبعضهم عاش في العراء الكامل كالقديس يعقوب الكبير، تلميذ مار مارون. مارون عاش في عراء نسبي. وكذلك القديستان مارانا وكيرا الحلبيّتان اللتان زارتا قبر المسيح، وكذلك قبر تقلا في سلفكيا[3] ، بدون تناول طعام. 

وما كان حبساء منطقتنا غير اجتماعيين، بل كانوا يستقبلون الزوار من ملتمِسي الوعظ والشفاء[4] . في منطقة غزة بفلسطين لمع حبيسان هما القديسان يوحنا وبرصنوفيوس اللذان أغنيا الكنيسة بما تركاه من رسائل مدهشة تحلّ مشكلات ملتمسي الحلول والإرشاد.

ثيئوذوريتوس وتاريخه

ثيئوذوريتوس[5] ، الكاتب الكنسي اللامع في القرن الخامس (457) كان صديقاً كبيراً للرهبان والحبساء وسمعان العمودي. اهتدت أمه الى التقوى، والكفر بالزينة والثياب الفاخرة (فعشقتْ النسك والزهد في الحبل والولادة)، وذلك على يديّ الراهب بطرس الغلاطي الذي شفى وجع عينيها العسير. فصارت مُعجَبَةً كبيرة بالمتوحدين والنساك والذهبي الفم. فحبلت وولدت ابنها الوحيد بوعد ونذرته[6] لله. ترهَّب، ثم صار أسقفاً لمنطقة قورش التابعة لمتروبوليَّة منبج (محافظة حلب) رغماً عنه. شاء أن يؤرخ لرهبان المنطقة كما أرَّخ آخرون لمصر، فترك لنا تاريخاً رائعاً قام على معلومات شخصية استقاها من الثقات مثل أمه وأكاكيوس مطران حلب (بالدرجة الأولى) وسواهما. وسمع بحبيس يقيم في شمال شرق جبله (محافظة اللاذقية) اسمه ثليليئوس Thalelaios فزاره وتعرَّف عليه. إلا أن تاريخه اقتصر غالباً على لمحات. وبعده غرقت المنطقة في الصراعات الكنسية، فلم يسدّ أحد النقص. ولهذا فانتقاصُ كتاب "الموارنة في التاريخ" من وزن مار مارون هو بلا قيمة. 

 بعد زوال الاضطهاد حلّ الرهبان محل الشهداء. أعمدةُ الكنيسة رسولٌ وشهيدٌ وراهب وأسقف وكاهن في وسط شعب يصلي بحرارة. وراءهم تقف أمهات مثل أم ثيئوذوريتوس، فنحظى بأساقفة رهبانيين يلوذون بالرهبان كما كانوا في طفولتهم يلوذون بأمهاتهم. الأمر واضح في كتابات ثيئوذوريتوس ولجوء أساقفة الى الحبيسَين يوحنا وبرصنوفيوس الغزيَّين. انحطاط الرهبنات هو سبب رئيس لسطحيَّتنا الروحية[7] وندرة قديسينا المعاصرين[8] .

مار مارون

منطقة قورش القديمة في ذمة التاريخ. في الخريطة المرفقة[9] يرى المرء مواقع نسك مار مارون وصحبه. اسم قورش غاب، وحلّ محله اسم "قلعة النبي هوري". المنطقة مجاورة لمنطقتي عفرين واعزاز في محافظة حلب. وهي جبلية تتعرض لمجاري رياح قاسية وللبرد القارس والثلج والمطر. وجارتها منطقة دير مار سمعان العمودي منطقة رياح. فمن ريحا حتى هناك بحيرات زيتون يقابلها غرباً على الشاطئ الجبلُ الأقرع (1759 متراً) والجبلُ الأحمر (1777) شرق رأس الخنزير، فجبال أمانوس فضلاً عن غابات الصنوبر البرّي الكثيفة شمال اللاذقية. المناخ جاف إجمالاً وصحي. ويمَكّن المتوحدين من السهر ليلاً في جهاد صلاة بارّة لا تنقطع. اختار مار مارون لنسكه جبلاً اسمه الآن برساداغ يبعد 10 كيلومترات عن عمود سمعان. كان مكرّساً لعبادة أرطاميس برسيئا Parsaia قريباً من بلدة اعزاز[10] . يرتفع عن سطح البحر 850 متراً. المنطقة ممتازة للنسك بفضل مشارفها الجبلية. 

وكان الهيكل الوثني مخصصاً لعبادة الشياطين، فكرّسه مار مارون، وبنى قربه كوخاً صغيراً، ولكن قلما استعمله. مار مارون طلب الكمال، فاتخذ قراراً مصيرياً بأن يقضي حياته في العراء، فسكن في ذروة الجبل ليناجي ربه في خلوات لا تنقطع. هو أبو هذا اللون من النسك. 

مصدرنا الوحيد عن حياة مار مارون هو ما كتبه ثيئوذوريتوس الذي اعتلى سدّة قورش (423) بعد وفاة مارون. وأنشأ كتابه في العام 444. ولم يحرص على إعطائنا سيرة كاملة للقديسين، بل حرص على رسم لوحة رائعة عن القداسة النسكية في المناطق التي أتى على ذكرها، متغنياً في بضع كلمات بأمجاد النسك من مصر الى فلسطين فشمال سوريا. لذلك لم يروِ لنا قصة كاملة، لا عن ميلاد مار مارون وحياته، ولا عن أحواله. 

وتجدر الإشارة إلى أن مارون هذا هو وحده مارون الأرثوذكسية القديس. ودير مارون في أفاميا هو على اسمه لا على اسم سواه. إنما يقرّ الاختصاصيون لمار مارون بأنه زعيم حركة الحبساء في القورشية. وقد استقى ثيئوذوريتوس معلوماته عن مار مارون من تلميذي هذا اللامعَين: يعقوب الكبير وليمنيئوس. فكان يعقوب صَديقاً كبيراً لثيئوذوريتوس، فخصَّه بالمدائح. 

كان مار مارون يعيش ـ كما قلنا ـ في العراء. وكان يتوقى الثلج والمطر بارتداء جلد الماعز. وكان مُجلـِّياً في ميدان النسك، فقطع أشواطاً بعيدة الأغوار أحرز فيها قصب السبق على سواه. فابتكر ألواناً من التقشف وشظف المعيشة. وكلل الله جهاداته بفيض غزير جداً من البركات والنِعم والمواهب. وإن كانت العجائب لا تدلّ على قداسة الحياة الشخصية، إلا أنها إكليل في جملة أكاليل الأبرار. 

فالقديس يوحنا السلمي ينوه بما يخصّ به اللهُ الرهبانَ من مواهب. إنما الحياة الشخصية الطاهرة الكاملة هي الأساس[11] . وقد خصّ الله مار مارون بموهبتي شفاء الأمراض وطرد الشياطين حتى طبَّقت شهرته الآفاق، فتقاطر إليه الناس من كل المناطق. فشفى الأمراض من جميع الألوان. ولم يكن يلجأ الى أدوات وعقاقير. أداته الوحيدة كانت الصلاة الطاهرة البارّة. كانت بركته تحلّ كالندى، فتطفئ السخونة وتهزم الشياطين، وتشفي كل مرض وسقم. وتعلق الناس بالحبساء أكثر من الأطباء[12] ، فأتوهم خاضعين مستسلمين في الأمور المستعصية وغير المستعصية[13]  

وما كان الحبساء يحبسون أنفاسهم. فمار مارون أطلق العنان ليشفي مرضى النفوس من أسقامهم. فوقف مرشداً روحياً كبيراً يقود الخاطئين في سُبُل البرّ والقداسة حتى تحوّلت منطقة قورش الى روضة مقدسة تعجّ بالغروس التي غرسها، أي بالرجال الأفاضل. وهكذا برز فلاحاً مجيداً في حقل الرب. فشفاء النفوس أهم من شفاء الأجساد. وربما ـ على ما نرى في الإنجيل ـ كان شفاء النفس باكورة لشفاء الجسد. فالجسد من صلصال يعود الى تراب، أما الروح فصورة بارئها وإليه المعاد. فهداية الخاطئ أرفع بما لا يُقاس من حشو بطنه بما لذ وطاب، ولو كان يشتهي الخروب الذي كانت تأكله الخنازير في مَثَل الابن الشاطر[14] . الذهبي ومكسيموس المعترف علـَّمانا أن الإحسان الى الروح أهم من الإحسان الى الجسد بما لا يُقاس. 

 ويبدو أن مار مارون كان ثقة حتى لدى اليهود. فكان قوم منهم قد التجأ الى سمعان القديم (هو غير العمودي)، فأجرى عجيبة على أحدهم. ثم جاء يرويها (في حضرة مار يعقوب الكبير) لمار مارون. فنقلها يعقوب لثيئوذوريتوس الذي نعت هنا مار مارون بـ "الملهم" (6: 3). 

وكان مار مارون شديد الإعجاب بالناسك القديس زيبيناس. فكان ينصح زائريه بأن يقصدوا زيبيناس ليحصلوا على بركته. وبلغ إعجابه به حداً دعاه معه: "أباه ومعلمه والنموذج الكامل لكل أنواع الفضائل. وكان يلتمس بإلحاح كبير "أن يودَع جسداهما قبراً واحداً". ولكن توفي زيبيناس قبل مار مارون. 

وطعن مار مارون في السنّ وشاخ. فأصابه، لبضعة أيام قليلة، داء كشف "وهن طبيعته وحيوية روحه". فتوفاه الله ونقله الى الفردوس. وتنازع المجاورون على جثمانه الطاهر، فحضر أهالي قرية مجاورة كثيرةِ السكان، فنجحوا في عملية إقصاء الآخرين، وأخذوا الجثمان، وبنوا فوق القبر كنيسة كبيرة، يحتفلون فيها علانية ورسمياً، فيمنُّ الله عليهم بثمار من الإنعامات الإلهية الغزيرة. 

لم يذكر ثيئوذوريتوس أن مارون أنشأ أدياراً، إنما ذكرت التقاليد ذلك. وهذا التنازع على أجساد القديسين كان شائعاً جداً. فبالقوة العسكرية تمّ نقل جثمان القديس سمعان العمودي الى أنطاكية. وكان رفات الأموات يحظى بالتكريم ويؤتى به من بعيد. فذكر ثيئوذوريتوس (24) أنه أقيم هيكل كبير في كيتا Kitta على قبر زيبيناس تمّ إيداع ذخائر الشهداء (الذين اغتالهم الفرس) فيه. وكان القديس ماروثا حاذقاً في الحصول على ذخائر شهدائنا في شرق الفرات المستشهدين على أيدي الفرس، فأتى بكمية كبيرة منها الى مركزه ميافرقين التابعة لمتروبولية آمد (ديار بكر)، حتى أُطلق عليها باليونانية اسم مدينة الشهداء Martyropolis[15] . 

والأعجب من هذا أن هناك حالات كانت الاستعدادات تسبق فيها الوفاة: دخل يعقوبُ تلميذ مارون الغيبوبة، فظن الناس أنه مات، فتنازعوا حاملين السلاح، ونتفوا شعر رأسه. فأتى أهل قورش وأبعدوا الناس بإطلاق النبال، وحملوه الى بلدهم. ولكنه عاد الى الحياة. ومواطنو سلمانيس اختطفوه من محبسه قبل وفاته لئلا يفقدوا هذه الذخيرة. ماركيانوس القورشي نسك في برية قنسرين في أيام والنس Valens (القرن الرابع)، فلما ذاع صيته أتاه أساقفة أنطاكية (القديس فلافيانوس)[16] وحلب (أكاكيوس) وقنسرين (أفسابيوس) وقورش (ايسيدوروس) ومنبج (ثيئوذوتوس) يستمعون لعظاته. صلـّوا ورفعوا أيديهم ليرسموه كاهناً، فلم يرسموه لأن كل واحد منهم كلف الآخر وضعَ اليد عليه. فاعتذروا بالتتابع لأنهم ـ كما أرى ـ تهيَّبوا وشعروا بعدم جدارتهم للمهمة. فانحنوا أمام قداسته وَجلين. وقبل وفاته أقام كثيرون هنا وهناك معابد مدفنيّة لتقبيل جثمانه الطاهر. منهم أليبيوس ابن أخيه الذي أقام له معبداً في قورش، وزينوبياني، السيدة النبيلة المَحتِد والمشرقة الفضيلة، معبداً في قنسرين. علم بذلك، فتدبّر الأمر مع الحميمين ونجا جثمانه دهراً.  أما وفاة مار مارون فمجهولة التاريخ[17] . في حسابات Canivet كان مارون حياً في العام 406. ولا نعلم شيئاً سوى ذلك[18] . ففي العام 406 تركه تلميذه يعقوب الكبير ليعيش في العراء، فكان ذلك في 444، عام تدوين التاريخ، أي بعد 38 سنة. 

نعرف أنه في العام 536، في عهد الأمبراطور جوستينيانوس الكبير، بُني دير هام على اسم القديس مارون في "ارمناز" احتلّ المكانة الأولى في سوريا الثانية البيزنطية. وكان الأمبراطور مركيانوس قد أمر في العام 452 بإشادة دير بالقرب من أفامية (محافظة حماه الآن) على اسم مار مارون. وهناك غالباً أديرة أخرى. إلا أن أشهرها هو الدير المذكور الذي اختفت آثاره كلياً، فلا يهتدي الباحثون اليوم الى أطلاله[19] . والجدير بالذكر أن لغة رهبانه كانت اليونانية[20] .فالبقعة كانت خاضعة للثقافة اليونانية فضلاً عن كون الكتاب المقدس المستعمل والتراث المسيحي آنذاك يونانيَّين بالدرجة الأولى. وقد حضر رهبان منه المجمعَ الخامس المسكوني[21] . وترأس رئيسه بولس وفد رهبان سوريا الى مجمع في القسطنطينية في العام 536 وقدّم شكاوى ضد سويروس أنطاكيا وبطرس أفاميا المعاديَين لخلقيدونيا. 

سيتساءل كثيرون عن معنى النسك والتقشف. الجواب العملي سهل، أما النظري فسفسطة. إما أن يعشق الانسان ذاته وبطنه وجلده وجسده وجيبه، وإما أن يعشق الله. النسك والتقشف المغمّسان في دم الصلاة بالروح القدس يقتلعانا من أجسادنا، لنكون في المسيح للآب السماوي. ثم تنعكس قداسة الروح على الجسد، فيمنحُ الروحُ القدس أجسادنا رجاءَ قيامةِ عدم البلى في القبر. كلامي عسير جداً، ولكني واثق بأن جسدي سيبلى في القبر، وأن روحي لن تلاقي يسوع إلا إذا أمَتُّ شهوات الجسد ورغباته وأهواءه بالروح القدس، لتحيا الروح. متى اخترع الناس دواءً ضد الموت أعدتُ النظر في موقفي. ولكن من هو الإنسان المجنون الذي لا يفهم أن العيش أكثر من مائة سنة عبءٌ ثقيل على الأهل وحتى على صاحبه؟ فحتى الموت هو رحمة لنا، ما دمنا نشيخ ونهرم ونصاب بالخرف. مار مارون هو إمام من أئمَّتنا للكُفر بالدنيا وملذاتها. فلنسِرْ على خطاه الرَّشيدة.   متى يقع عيده؟ الأرثوذكس واللاتين يعيّدون له في 14 شباط، أما الموارنة ففي 9 شباط.

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com