عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E الانجيل اليومي

من نعمة التّديّن الطّبيعيّ إلى سموّ الإيمان الربّانيّ

من نعمة التّديّن الطّبيعيّ إلى سموّ الإيمان الربّانيّ

(بقلم الأب د. بيتر مدروس)

يتابع المرء من هذا المنبر الأغرّ خوض المواضيع ذات الشّأن الرّفيع في المضمار الدّينيّ الّتي لا تخصّ الطلاّب فقط بل أيضًا والديهم ومربّيهم وأولياء أمورهم وجميع الناس بلا استثناء. وتزيد "أهمّيّة" هذه المواضيع بسبب استهانة طلبة كثيرين بالدّيانة، خصوصًا في السّنة الأخيرة للدراسة وهمّهم العلامة والمعدّل. لذا، يشكر المرء من صميم القلب لصحيفة "القدس" الغرّاء تكرّمهابنشر هذه المقالات كما يثمّن المرء عاليًا كلّ الّذين يشجّعون هذه الكتابات وهي تروم خدمة الله والإنسان والوطن.

"نعم، نعم، للتّديّن الطّبيعيّ"

أثبت المقالان السّابقان أنّ هنالك دلائل على وجود الله تعالى، عن طريق العقل والضّمير الإنسانيّين، مع أنوار الوحي وبعده. ومن النّعم التي أنعم الله بها على الإنسان الفطرة أي الشّعور بالكائن الأسمى والقوّة العظمى والجلال والبهاءخصوصًا أمام معجزات الطّبيعة أو حتّى أمام الكوارث الكونيّة. ولا يجوز رفض التّديّن الطّبيعيّ ولا انتقاده ولا نبذ شعور الخوف أمام العظمة الإلهيّة أو أمام الموت الذي يقهر به الخالق عباده. نعم، "رأس الحكمة مخافة الله". وهنالك آيات في الكتاب المقدس لا حصر لها تشير إلى المؤمنين الصّالحين الورعين بأنهم "خائفو الله". وكان اليهود يفرحون بصدق عندما كان وثنيّون ينبذون الأصنام ويؤمنون بالإله الواحد وبالوصايا العشر وإن كان أولئك القوم يرفضون بعض الشّعائر مثل الختان الوضوء والصّوم العبريّ. ودعاهم اليهود "خائفي الله". وكثيرون منهم اعتنقوا المسيحيّة ومنهم الطّبيب الحبيب لوقا الذي كان من إنطاكية.

بلا هذا الخوف من الجلال الإلهيّ، يتوهّم ابن آدم انه  أكثر ممّا هو عليه "ويناطح بأنفه شهب السماء" وينسى قدر نفسه أنه كائن ضعيف فانٍ، "قابل للكسر والعطب مثل قصبة، ولكن قصبة مفكّرة" (بسكال)، بحاجة إلى حماية وإنقاذ وشفاء. وقد عبّر صاحب المزامير عن موقف السّخافة والغرور والخيلاء المختبىء  أحيانًا عند الإنسان السّليم الثّريّ الذّكيّ المكتفي بذاته النّاجح: "أنا قلتُ أيّام الرّخاء: لن أتزعزع طول البقاء...! ثمّ حجبتَ، يا ربّ، وجهك عنّي، فنال الفزع منّي" (مزمور 30 (29): 7- 8).

الإلحاد أخطر من "تديّن طبيعيّ" محوّر

صدق قدس الأب المارونيّ يوحنّا إجحا في دحض أقوال آخرين وكتاباتهم في نقد "التّديّن الطّبيعيّ". وربّما كان قصدهم لا نقضه أي عدم هدمه بل الرّغبة في تكملته والسموّ به إلى مستوى الوحي. مثلاً ينتقدون "الخوف" ولكنّنا بشر خاطئون وأحيانًا لا يعيدنا إلى الله إلاّ الخوف أو الخسارة أو الإخفاق. وفي الإنجيل نفسه، في حرفه الثّالث الّذي أوحاه الله وألهمه إلى القدّيس لوقا، فصل 15، يعود الابن الضّالّ العاقّ إلى أبيه، لا محبّة ولا ندامة ولا خجلاً، بل بسبب الجوع والفاقة والفشل: "كم لأبي من أجراء يفضل عنهم الخبز ، وأنا هنا أتضوّر جوعًا! أقوم وأمضي إلى أبي"! ولا يصدّه أبوه ولا يقول له: أنت جئت بدافع الجوع والتّديّن الطّبيعي والخوف من المجاعة والموت، عد أدراجك إلى البلد البعيدة التي سافرت إليها عقوقًا ونمردة!"

ولا خطأ في أن "نتديّن" بشكل طبيعيّ ونخاف غضب الله. وليست جريمة أن نرجو ثوابه ورضاه ونعمه علينا من صحّة وكرامة ويسر عيش وفلاح، ونعمه السّماويّة من غفرانه لخطايانا ونحن نستمطر عطفه علينا. وهنا يأتي الوحي ليرفع التّديّن الطّبيعيّ لا ليدمّره. ويعلّمنا الوحي أن "نحب الله" فنكون من الّذين "يحبّون الله"، وهم أسعد النّاس وأفضلهم. ولا تناقض بين الخوف والمحبّة. فنحن نخاف أن نأتي بالمعاصي التي تغضب الإله العظيم القدير الجبّار الذي يحبنا ونحبه. وهو الإله العادل الحكيم العليم "الذي لا يستهزىء به أحد"!

وينتقد بعضهم "التّديّن الطّبيعيّ" عند قوم يريدون – حاشى – أن "يسخّروا الله" لمشاريعهم. والواقع أنّ هذه التّهمة ظالمة جائرة لا يعرفها "المتديّنون" الّذين، مثل جابي الضّرائب الذي مدح السيّد المسيح صلاته، لا يجسرون أن يرفعوا رؤوسهم في دعائهم، وهم لضعفهم واعون وبعدم استحقاقهم شاعرون. بل يسألون الله ويتضرعون ويبتهلون ويتوسّلون بدموعهم وقد أدركوا أنّهم "عدم ولا شيء" أمام الخالق العظيم. وإن كانوا يخاطبونه أحيانًا بدالّة الأبناء، فهذا لا يعني أنّ مخافة الله الباري الجبّار خطأ بل هو الخالق القدير ونحن عياله. ولا محبة حقيقية لله من غير المهابة والإجلال.

أمّا الإلحاد فهو باب مغلق أمام الإيمان والورع وهو- والعياذ بالله- إنكار وجود الله أصلاً وعدم عمل حساب له تعالى ولا لوصاياه ولا للآخرة وهو نوعًا ما -"عبادة" الإنسان – حاشى- صنمًا ووثنًا، مع أنّ الملحدين يرون ضعفه ومساوئه وسرعة عطبه وخبثه ومكره وجسامة آثامه. ونرى هذا الإلحاد في غرب خان المسيح والمسيحيّة وصار يتشدّق بالمادّة والانفلاتيّة والانحراف وسائر المعاصي والمنكرات، بخلاف هدى الإنجيل الطّاهر ونوره. وصرنا نرى قنابل تُرمى في الأرجنتين على الكنائس لأنّها ترفض الإجهاض وزواج المثليين! ونشهد التّشنيع في فرنسا على كنيسة قديمة أخذتها البلدية من الأبرشيّة وجعلتها منبرًا لخطابات الإلحاد في سبيل تدمير الأخلاق والأسرة!

خاتمة

يرى السّيّد المسيح أنّ كلّ قطرة إيمان أو صلاح بمثابة "كتّان مدخّن" لا يجوز إطفاؤه بل يجب إشعالهليصبح مصباحًا منيرًا، "وقصبة مرضوضة" لا يجوز كسرها بل تقويمها ورفعها. وكان مثلّث الرّحمات البطريرك شنودة الثالث يشير إلى هذه العناصر الإيجابية بأنها "نقاط مضيئة" لا يجوز إطفاؤها بل إنارتها أكثر. فلنشكرنّ الله على أنه وضع في قلب البشر تديّنًا طبيعيًّا بالفطرة لا يجوز قمعه ولا ردعه بل يجب رفعه إلى مستوى أعلى من معرفة الإله والسموّ من المخافة إلى المحبّة بدل الخوف من العقاب ورجاء الثّواب. ولنسألنّ أن يعود هذا التّديّن الطّبيعيّ قاطرة كريمة تحمل الإيمان الربّانيّ بالوحي الإلهيّ فتسمو بالإنسان، ولا سيّما الغربيّ، من الإلحاد إلى الإيمان ومن المادّة إلى الروح ومن المعصية إلى الصلاح ومن خيلاء الخليقة  وغرور الدّنيا إلى مخافة الخالق ورفعة الخلود!

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com