عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E التراث العربي المسيحي

البطريرك صفرونيوس: الوحدة بين القدس وروما

البطريرك صفرونيوس: الوحدة بين القدس وروما

واللقاء بين المسيحيّة والإسلام

(بقلم الأب د. بيتر مدروس)

تحتفل في هذه الأيّام الكنيسة الكاثوليكية الرّومانيّة بشكل عام، والبطريركية اللاتينيّة المقدسيّة الرسوليّة الوطنية، بعيد القدّيس البطريرك صفرونيوس، الذي تسود حوله،حتى في العالم المسيحي، سلسة من الفرضيات غير الصحيحة ولا الدقيقة تاريخيًّا. مع أن اسمه يوناني غير أنه كان سريانيا، ناطقًا بلسان المسيح الأمّ أي الآرامية. وكان أديبًا شاعرًا لاهوتيًّا يُتقن اليونانية أيضًا.  أمّا القدّيس الكبير يوحنّا فم الذهب، "رئيس اساقفة القسطنطينية"، ومن أعظم كُتّاب الطقس البيزنطي، فكان هو أيضًا سريانيًّا إنطاكيًّا. وما وُلد مار صفرونيوس في اليونان بل في بلاد آرام، في دمشق، من والدَين سريانيين ورعَين هما ميرثو وإبلينثاس. وما كان "أرثوذكسيًّا" بالمعنى الحديث المنتشر منذ سنة 1054 (إذ توفّي سنة 638 م) بل كان "مستقيم العقيدة" متّحدًا اتّحادًا تامًّا مع كرسي روما أي الفاتيكان، بحيث أن بطريرك القدس للاّتين يخلف البطريرك صفرونيوس، من ناحية استقامة العقيدة والاتحّاد الكامل والولاء التام لكرسي روما، الذي وصفه مار صفرونيوس نفسه، بغير التباس،بأنّه "كرسي العقائد القويمة"، مشيدًا بالكنيسة الرومانية الرسولية البطريركية، "كنيسة الرومانيين جزيلة القداسة، وهي بمثابة المنارة لجميع الكنائس تحت الشّمس". وما كان البطريرك صفرونيوس يُقيم القداس بالطقس اليزنطي، بل بالطّقس الآرامي السرياني، لكن باللغة اليونانيّة في المدن، وبالسريانية في القرى. وما دخل الإكليروس اليوناني والطقس البيزنطي إلى بطريركية القدس إلاّ بعد الحكم التركي العثماني، وبالذات بعد سنة 1534، عن طريق اليوناني البيلوبونيزيّ البطريرك جرمانوس، بالتنسيق مع "الباب العالي"، بعزل البطريرك العربيّ، في ظروف غامضة.

الحوار بين الخليفة والبطريرك

لا يريد المرء هنا أن يغطّي الحاضر بالماضي، ولا أن يتغنّى بالأطلال، وهو يذرف الدمع السخين ويقول: "كنّا على مودّة،وكنّا في وئام، وكنّا في محبّة، وتحاورنا بأريحيّة، وسلّم بطريركنا الخليفة الفاروق مفتاح زهرة مدائننا!" كلّ هذه الأفعال في "الماضي النّاقص"، والحاضر أكثر نقصًا! والسّؤال : أين أنتَ أيها الفاروق اليوم؟ و كيف استطاعت الفتنة أن تغزو عددًا من شعوبنا العربيّة، وتدمّر وحدتنا الوطنيّة ولحمتنا الشعبيّة؟ وكيف قدر قوم أن يدسّوا بيننا "بدع هلاك" يكفّر فيها أحدهم الآخر، حتى في الدين الواحد والبيت الواحد؟ وهل سينجحالفاتيكان والأزهر وسواهما، في أن يُعيدوا إلينا أيّام المودة والوئام والعناق بين الخليفة والبطريرك، والتفاهم والتباري في المكارم والسّباق في التّواضع؟

لذا، من المؤسف أن يتورّط رجال دين مسيحيون، من أساقفة إلى كهنة، بالأمور السياسيّة، ويتّخذوا مواقف تخالف تعليمات السيّد المسيح والكنيسة في "مسالمة جميع الناس قدر الإمكان"، وفي "زرع المحبّة حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة" واستقبال اللاجئين مع ضرورة العمل على المحافظة على حقّ العودة وعلى سيادة البلد المضيف وهويّته.

 

دعم الكرسي الرسولي للبطريركيّة اللاتينيّة المقدسيّة الوطنيّة

يُشرَح صدر المرء، وهو يقرأ في الصحف، ولاسيّما في هذا المنبر الأثيل الأغرّ، مقالات هادفة، تنمّ عن محبّة للكنيسة وللبطريركية اللاتينيّة، التي هي البطريركيّة الوطنيّة الكاملة الوحيدة بإكليروسها وشعبها، وتنتمي بنفس الوقت إلى الكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة. ولا يجوز أن نحسب إخوتنا الأرمن الأرثوذكس -كرعيّة متألّمة- غرباء عن فلسطين والأردن. أمّا بطريركية الروم الأرثوذكس الشقيقة، فهي وطنيّة في شعبها وبعض إكليروسها لا في رئاستها.

ويلمس القارىء من مقال د. شارلي يعقوب أبو سعدى مودّة للبطريركريّة اللاتينيّة كبيرة (وهي مودّة وإخلاص قرأناهما في مقالة بنّاءة سابقة للأستاذ كمال شمشوم)، ولا عجب، فالدكتور شارلي من أبناء الكنيسة الكاثوليكيّة الشرقيّة الملكيّة، المحبّين المقرّين بأفضال الكنيسة اللاتينيّة، ليس فقط على كلّ فلسطين والأردن، بل أيضًا عليه شخصيًّا، وعلى دراساته العليا في روما، وعلى عدد كبير من الكهنة والأساقفة والبطاركة الروم الكاثوليك، الذين أعطاهم التنشئة الكهنوتيّة في دير القدّيسة حنّة ("الصلاحية") حتى سنة 1967 الآباء البيض الأفاضل. وكان الدكتور الراحل جريس سعد خوري، مؤسس "مركز اللقاء"، قد درس هو أيضًا الفلسفة واللاهوت في جامعات روما الحبريّة. وقد تقبّل، بطيب خاطر وحماسة شديدة، اقتراح الداعي بإنشاء مجلّة "اللقاء" ، وزاد عليها مع حركة التقارب المسكونيّة بين المسيحيين، التقارب مع مواطنينا المسلمين، فبقيت نواة مستمرّة، بعد رحيله المبكّر المفاجىء في ساحة القدّيس بطرس، للوحدة الوطنيّة وللحوار البنّاء بين الديانتين. أمّا مثلّث الرحمات المطران جبرائيل أبو سعدى – وهو عمّ للدكتور شارلي، فقد كان النّائب البطريركي الفلسطيني المحلي الوحيد في القدس ، وتميّز بشخصيّة فذّة وتصميم فولاذيّ ذلّل الصعاب، وأنجز الكثير من المآثر في بضع سنوات. وأسلافه وخلفاؤه الباقون من نوّاب بطريركيين ملكيّين في القدس، كانوا من مصر وسورية ولبنان وسواها، وما يزالون من خارج فلسطين.

لا "عروش" في الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة!

يكتب الدكتور الفاضل أبو سعدى أنّ "أزمة جامعة مادبا قد أنزلت البعض عن عروشهم". والأقرب إلى الصّواب أنّ تلك الأزمة، بتدخّل "روما العظمى" الأبويّ الرسوليّ، ذكّر الكلّ أنّ لا عروش ولا سلطنات في الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة! فالحبر الأعظم أي قداسة البابا، منذ عهد الباب غريغوريوس الكبير "خادم خدّام الله". ومنذ عهد بولس السادس، ضحّى البابا بالتاج الثلاثيّ "تريرنيو" الذي كان يرمز إلى مُلكه الروحاني والأدبي والعالميّ . ولا يلبس الأساقفة اللاتين "تاجًا" ، بخلاف أساقفة الطقس البيزنطيّ ، الذين كانوا قريبين إلى الإمبراطور في القسطنطينيّة فأخذت الثياب الكهنوتية والأسقفية والبطريركية والليترجية عمومًا الكثير من البهاء الإمبراطوريّ. ولا يبقى الأسقف اللاتيني الأبرشي "جالسًا"  "لسنين كثيرة" حتى يتوفّاه الله بعد شيخوخة لا تخلو من الأمراض ولا المتاعب. بل على الأساقفة الأبرشيين اللاتين أن يستقيلوا في سن الخامسة والسبعين. أمّا السفراء البابويّون، فعليهم أن يستقيلوا في سن الثانية والسبعين. لذا، لا تترك الكنيسة الكاثوليكيّة اللاّتينيّة مجالاً لأمراض الشيخوخة وأوهانها وضعف ذاكرتها وقلّة تركيزها. وهذا عين الحكمة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ عددًا من الأساقفة اللاتين، في قصة "جامعة مادبا" وفي مشاريع أخرى، وقعوا ضحايا لعلمانيين غير أهل للثقة. وربّما كان هنالك من رجال الإكليروس مَن توهّم أنّه سيّد الأوضاع، فأتت كلمة روما تحسم الأمر. ومعلوم أنّ في الكنيسة الرومانيّة مركزيّة وهرميّة مذهلتَين، قائمتَين منذ نحو عشرين قرنًا من الزمان، لا تسمحان بتسرّب الفوضى. وشاءت الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة، حرصًا على "كرامة الشّرقيّين" حسب تعبير البابا العظيم لاون الثّالث عشر، أن تحتفظ الكنائس الشرقيّة المتّحدة معها باستقلال معيّن، أو بحكم ذاتي شبه كامل. فتضاربت أحيانًا المرجعيّة البطريركيّة الشرقيّة والمرجعيّة الفاتيكانيّة، ولكن مع الحوار والتفاهم يتمّ كلّ خير.

ولا تقبل الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة عصيانًا ولا تمرّدًا. ويحافظ فيها الحبر الأعظم، مع تواضعه كخادم خدّام الله، على سلطة مباشرة على كلّ الأساقفة اللاتين في العالم، لا من باب السيطرة، بل من باب المركزيّة الحكيمة التيصانت، عبر الدهور وتقلّبات البشر،  "وحدة الإيمان" والحنكة الإداريّة التي هي مضرب الأمثال. ومع العصور الحديثة، اتخذت السلطة البابويّة شكلاً أخويًّا استشاريًّا ، رفع شأنه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، بحيث نادرًا ما يتّخذ الحبر الأعظم قرارًا ذا شأن، من غير الأخذ بآراء المجامع الشوريّة الكثيرة الفاتيكانيّة حوله. وهكذا، لاتتمّ في الأسقف اللاتيني الكلمة اليونانيّة القاسية، التي تشير إلى المطران،أي "ذسبوتس" وتعني "المتحكّم".

 

تغيير الأساقفة عند اللاتين أو استقالتهمأو إقالتهم ليست بالأمور الرهيبة ولا الصاعقة

حكمة الكرسي الرسولي الفاتيكاني تقضي أنّ مدبّرًا رسوليًّا – مثل رئيس الأساقفة بيتسابالا- لا يحقّ له أن يطلب تعيين مطارنة جدد، لئلاّ يوجد أمرًا واقعًا، يتورّط به خليفته، أو يضعه فيه كرهًا تحت الأمر الواقع (كما تفعل بعض الكيانات السياسيّة). لذا، عندما أتت استقالة أحد الأساقفة، ما بقي سوى خيار بين اثنين للنيابة البطريركيّة في الأردن الشقيق: إمّا النائب البطريركي اللاّتينيّ في القدس أو في الناصرة. وتمّ اختيار سيادة المطران وليم الشوملي، ابن بيت ساحور البارّ (والدكتور أبو سعدى من بيت ساحور) ليشغل الكرسي الشاغر في الأردن، احترامًا للمملكة الأردنيّة بسبب عروبة المطران وليم، وطويل باعه في معرفة العادات والتقاليد والأعراف العشائرية والثوابت الوطنيّة، مع أنّ المطران بولس مارقوتسو إيطاليّ المولد، عربيّ الانتماء، فلسطينيّ المشاعر، ليس أقلّ من المطران وليم دراية وورعًا وحكمة.

ولكن لا يجد المرء في الكنيسة اللاتينيّة في المعمور كلّه – وهي أكبر كنيسة ديموغرافيّا وأقواها معنويًّا - لا يجد مطرانًا متمرّدًا على بطريركه، كما هي الحال أحيانًا عند طوائف شرقيّة كاثوليكيّة وأرثوذكسيّة. ولا يجوز لأحد أن يعلّق على استقالة أسقف أو إقالته، وعامّة الناس والإكليروس لا يعرفون الأسباب التي أدّت إلى ذلك. كما أنّ الكرسي الرسولي ليس مجبرًا أن يعلن للناس عن أمور شخصيّة أو إداريّة ، ليس من شأن البشر أن يعرفوها، ولا بمقدورهم أن يصلحوها.

ووجود المطران الإيطالي بيتسابالاّ كمدبّر رسوليّ ، في البطريركية اللاتينيّة الوطنيّة، مرحلة مؤقّتة. وقد بدأت والحمد لله، وبإنعام الكرسي الرسولي، بوادر الانتعاش والنهضة في البطريركية، التي تعاني من نتائج سوء إدارة ، سرعان ما تمضحلّ ، لحسن النيّة والهرميّة الحبريّة والمركزيّة البابويّة، وللالتزام الكاثوليكي الصّارم بالطّاعة والتّواضع، ومعرفة قدر النفس عند الإكليروس والشعب. وكما كتب د. أبو سعدى، لا بدّ من وضع حدّ لطيف حازم لبعض العلمانيين المتسلّقين والمستفيدين والانتهازيين، الذين استغلّوا سذاجة بعض رجال الإكليروس، وربما كدّسوا أموالاً على حساب الكنيسة والمحتاجين. وليس هذا الضبط والربط والرقابة جديدة على الكنيسة الكاثوليكيّة ولا سيّما الرومانية، لأنها تطلب من كلّ أسقف أبرشيّ، تقريرًا وافيًا كلّ خمس سنين، وزيارة "الأعتاب الرسوليّة" أي زيارة الكرسي الرسولي والحبر الأعظم في الفاتيكان بهذه المناسبة.

خاتمة

يا ليتنا نقتدي بالقدّيس صفرونيوس، في تواضعه وورعه، وعميق إيمانه ومحبّته وولائه للكرسي البطرسي الرسولي الروماني،وبالخليفة الفاروق في أريحيّته وسعة آفاقه ومودّته لأهل الكتاب.

 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com