عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

التريودي

التريودي يبدأ في أحد الفريسي والعشار ويستمر حتى يوم السبت العظيم. ويعتبر زمان التريودي مؤلفاً من من ثلاث مراحل : الأولى وهي المهيئة للصيام والثانية الصيام الأربعيني، والثالثة أسبوع الآلام المقدس.

مع دخولنا في أحد الفريسي والعشار نبدأ الترتيل والقراءة من كتاب التريودي وهو أحد كتبنا الطقسية وكلمة تريودي تعني الثلاث أوديات (قصائد). الأودية في طقسنا هي قطعة مرتلة من القانون الذي يتلى في صلاة السحر، عدد الأوديات في كل قانون تسع. إلا أن الأودية الثانية حذفت في كل أيام السنة عدا في أيام الصوم الأربعيني

الأوديات التسع مرتكزة معنى ومبنى على التسابيح المأخوذة من الكتاب المقدس والموجودة في كتاب السواعي الكبير وهي بالتتالي:

· التسبحة الأولى لموسى(خروج 1:15-19)،

· التسبحة الثانية أيضاً لموسى(تثنية الاشتراع 1:32-42)،

· التسبحة الثالثة لأم صموئيل(صموئيل 1:2-10)،

· التسبحة الرابعة لحبقوق النبي(2:3-19)،

· التسحبة الخامسة لأشعياء النبي (أشعيا 9:26-20)،

· التسبحة السادسة ليونان النبي(1:2-9)، التسبحة السابعة للفتيان الثلاثة(دانيال 26:3-56)،

· التسبحة الثامنة للفتيان الثلاثة (دانيال56:3-88)،

· التسبحة التاسعة لوالدة الإله ولزخريا والد يوحنا المعمدان(لوقا 46:1-55 و68:1-79)

فالتريودي هو الكتاب الذي أخذ اسمه من الأوديات الثلاثة التي تًرتل في كل أيام الصوم الأربعيني. هذا ما نقرأه في مطلع سنكسار أول أيام التريودي، أحد الفريسي والعشار "يا مبدع كل شيء سماوياً كان أم أرضياً اقبل أما من الملائكة فتسبيحاً ثالوثياً، وأما من البشر فتريودياً شريفاً خشوعياً".

السماء والأرض تؤلفان جوقاً واحداً، الملائكة والبشر تتآلفان في تسبح "مبدع كل شيء "، الملائكة تنشد تسبيحاً ثالوثياً (تريصاجيون) قدوس قدوس قدوس.....، والبشر تجيب بأودية تسبيح ثالوثية (تريوديون) شريفة خشوعية.

يقول كاتب سنكسار التريودي نيكيفوروس كالستوس أن أول ناظمي الأوديات الثلاث هو قزما المنشئ الذي رتبها كي تكون رسماً للثالوث الأقدس عنصر الحياة، وهذه الأوديات ترتل في الأسبوع العظيم. ثم تلاه مؤلفون عديدون منهم ثاودوروس ويوسيف من دير ستوديون في القسطنطينية، وقد ألفا قوانين لأسابيع الصوم الأربعيني.

يتميز التريودي بثلاث طروباريات ترتل في صلاة السحر كل آحاد الصوم بعد تلاوة المزمور الخمسين بعد إنجيل السحر.

هذه الطروباريات تشكل وحدة ليتورجية مترابطة نستوحي معناها من المزمور الخمسين وهي :"افتح لي أبواب التوبة...."، "سهلي لي مناهج الخلاص...."، "إذا تصورت كثرة أفعالي الرديئة...". إن كاتبها يستوحي من الكتاب المقدس ولكنه يعيد صياغة الأفكار الكتابية بشكل ينم عن عمق روحي وفهم عميق لسر التوبة، يتذكر ويعترف بخطاياه الكثيرة ويتحسس يوم الدينونة ويرهبها، لكنه يؤمن إيماناً عميقاً بالله، ويترك ذاته لعظم مراحمه. هذا الإيمان وهذا الرجاء إذا ما تحركا بالتوبة يخلصان الإنسان كما خلُص داود حين صرخ: "ارحمني يا الله كعظيم رحمتك".

آحاد التهيئة هي عبارة عن أربعة آحاد نستعد من خلالها للصوم الكبير المقدس

1. أحد الفريسي والعشار

2. أحد الابن الضال

3. أحد الدينونة

4. أحد الغفران

المرحلة الثانية: وهي الصيام الأربعيني و يتمثل فى خمس آحاد

1. أحد الأرثوذكسية (هزيمة محاربة الأيقونات)

2. أحد غريغوريوس بالاماس ( العقيدة اللاهوتية المتعلقة بالنور الإلهي)

3. أحد السجود للصليب (في منتصف الصوم تنصب الكنيسة أمامنا صليب المسيح للتقوية)

4. أحد يوحنا السلمي (سلم الفضائل)

5. أحد مريم المصرية (التوبة)

المرحلة الثالثة: وهو أسبوع الآلام الـمقدس الذي ينتهي بالفصح المقدس

 1- تلغي الليتورجيا الخطر الذي يفصل في أيّامنا هذه بين "الزمن" و"الأبديّة":

كان الزمن والتاريخ شرّاً لا بدّ منه. لذلك لطالما تاه الناس بطلب الخير في عالم آخر خارج هذا التاريخ. لكنّ الزمن والأبديّة يلتقيان في الليتورجيا. ليست الأبديّة زمناً قبل أو بعد التاريخ بل هي خميرته. الأبديّة هي التاريخ حين يتوسطه الله، وحين تتحقّق إرادته الإلهيّة، أي حين يصير العالم قرباناً بواسطة الإنسان. الأبديّة هي التاريخ المختمر بالإرادة الإلهيّة. لذلك يمكننا أن نكون في التاريخ بين بين! أي بين الزمن وبين الأبديّة.

فالزمان والمكان اللذان نعيش فيهما هما تماماً العالم الذي ينتظرُ تقديسَنا له! المسيحيّة لا ترفض عناصر الحياة المكانيّة والزمنيّة بانتظار زمانٍ ومكانٍ آخر. وهي أيضاً لا تحتقرها! هذه هي المادّة التي على الإنسان أن يكهنها ليقدّس ذاته من خلال هذه الرسالة ويقدّسها أيضاً.

 2- ترفع الليتورجيا النـزاع بين المادّة والروح:

إن أكثر ما يعذّب الفكر الإنسانـيّ اليوم هو الفصل بين الجسد والنفس، وتهويل الصراع بين المادّة والروح. ويبدو أنّ الجسد عدوّ الروح، والعكس بالعكس! وعلينا أن نقهر جسدنا "لكي نحيا بالروح". وهذا الفصل لا بل الصراع بين ما هو روحيّ وما هو ماديّ يزداد في أيّامنا. وذلك بسبب من ازدياد التخصّص والميكانيكيّة في الأعمال. لقد فقدت طبيعة أغلب الأعمال كلّ علاقة إنسانيّة أو جماليّة أو روحيّة. كانت الأعمال قديماً تصل الإنسان بالطبيعة (الزراعة) وتبني له علاقات (تجارة)، أمّا اليوم فإنّ ضخامة الأعمال وتخصّصها غالباً ما تنـزع الإنسان من هذا الجوّ الروحيّ! حتّى وقت الفراغ الذي كان يُنتظر أن يُخصَّص للأمور الروحيّة، تعويضاً عن تلك الخسارة الحاصلة، فإنّه بدوره بدأ يفقد بألوان تسلياته كلّ ما هو روحيّ، أو أحياناً ينقلب إلى وقت يقتل كلّ ما تبقّى من روحانيّة عند الإنسان، الذي يخرج من عمله المرهق منهكاً.

يبدو وكأنّه لا يوجد مكان لقاء في حياة الإنسان اليوميّة والعاديّة بين الروح والعمـل، وبين الـروح والـمحيط! ويزداد الشعور أنّ الروح يتطلّب منّا البعد والخروج من أطر حياتنا هذه!

الليتورجيا هي ساحة اللقاء الحقيقيّ بين المادّة والروح. تُشرِكُ الليتورجيا الجسدَ والمادّة في التقديس مع كلّ ما هو من الروح. تستخدم الليتورجيا مواد هذا العالم، التي اعتاد الإنسان أن يراها ماديّة، تستخدمها فتصير مقدّسة. الخبز والخمر يصيران أقدس ما في الوجود، جسداً ودماً إلهيَّين. وليس هذه فقط، بل كلّ مواد الحياة والعمل اليوميّة التي تبدو أنّها لخدمة المادّة، تأخذها طقوس الليتورجيا لتستخدمها في التقديس. لذلك نستخدم الخشب، والماء، والأغصان، والألوان، والأطياب. هكذا تبرهن الليتورجيا أن لا خطيئة في المادّة. إنّما الخطيئة هي في الاستخدام. المادّة هي عنصر هوان وخطيئة كما هي عنصر قداسة وبرّ. العالم ليس شريراً، بل على العكس! لذلك في المعموديّة لا نغطّس الذهن والرأس بل الجسد كلّه! وفي سرّ مسحة الميرون ندهن الأعضاء كلّها من الأقدام إلى الرأس. كلّ شيء يصير مقدّساً عندما يتقبّل النعمة الإلهيّة.

هذا التقليد الليتورجي بطقوسه يجعل العبادة تصير بأعين مفتوحة على العالم الماديّ كما هو أمامنا وبعناصره ذاتها التي نستخدمها في حياتنا اليوميّة، وليس كما في الغرب بإغلاق الأعين ومحاولة الانسحاب من هذا المكان والزمان لملاقاة الله في حيّز ليس هنا وزمن خارج زمننا.

 3- تلغي الليتورجيا النـزاع بين الفرد والجماعة:

رغم أن كلّ التيّارات الاجتماعيّة والمدنيّة تذهب إلى تعميق الحياة الفرديّة، فإنّ الليتورجيا هي التيّار المعاكس في الحياة. لا يوجد في الليتورجيا شيء فرديّ. لأنّ العلاقة مع الله ليست بين فرد وإلهه بل بين الله وشعبه. الإنسان ليس فرداً يهتمّ بشؤونه، إنّما هو الإنسان الذي يهتمّ بالإنسان. الآخر ليس أداة للحياة نستهلكه وإنّما غاية حياتنا التي نضعها لخدمته. هكذا يحقّق الإنسان ذاته في الليتورجيا.

إنّ حركة العالم، وفي أفضل مجتمعاته تطوّراً وتنظيماً، تريد أن تؤمّن الأنظمة التي تحافظ للإنسان على حريّته واستقلاله وفرادته وفرديّته. وتجد العلاقاتُ السعادةَ في ترتيب استقلاليّة الفرد في مجتمعه وتحديد واجباته وحقوقه ضمن المجتمع الذي يحيا فيه. لذلك "المجتمع" في الأدب الغربيّ هو تجمّع (society) وليس شركة (community) كما هو في تقليدنا الأرثوذكسيّ. فالشركة غير المجتمع عموماً. تتعامل الليتورجيا مع الإنسان على أنّه عضو في شركة القدّيسين.

وإنْ كان هناك شركات وروابط اجتماعيّة في مجتمعاتنا، إلاّ أنّها في العمق تقوم على أساس الفرز والانتخاب من بين الجميع (collection). هذه الطريقة "الفرديّة" على مستوى مجموعات وليس الفرد تطبع الحياة الاجتماعيّة، فهذه "النخبة" ضروريّة بقدر ما تؤمن سعادة الفرد وتكمل له جوانب حياته التي تُعوزه. أَلا نلاحظ هذا التيّار حتّى في حياتنا الكنسيّة؟ حين تظهر فئات نخبويّة تريد أن تبرّر في تجمّعها فرادتها أي فرديّتها ونرجسيّة حبّ الذّات وتطويبها لـ "التجمعات والجماعات" تحت أسماء في الكنيسة. وتجعل هذه الجماعات فوق الكنيسة. هذه كلّها مظاهر تدلّ على تأثير الطابع الاجتماعيّ وليس الروحيّ وعلى غياب فاعليّة الليتورجيا في حياة هذه "الجماعات". فلا يوجد أيّ مبرّر للفرز في "الشركة" المسيحيّة وفي شركة القدّيسين، لا على أساس اجتماعيّ ولا على أساس ماديّ ولا حتّى على أساس معرفـيّ أو إيمانـيّ. في شركة القدّيسين كلّنا أعضاء جسد المسيح والعضو الضعيف يسنده القويّ. وأكثر الأعضاء هواناً أكثرها كرامةً. ولا يوجد عضو، مهما كان مريضاً أو ضعيفاً، غير ضروريّ للجسد كلّه.

طريقة التعبير عن التقوى خارج الليتورجيّة هي طريقة فرديّة. لكنّ الليتورجيا تعبّر عن عبادة الكنيسة كلّها مع بعضها البعض فليست هي عملاً فرديّاً لكلّ مؤمن تجاه ربّه أو حتّى تجاه الكنيسة. لذلك لا يعرف التقليد الأرثوذكسيّ "قدّاساً شخصيّاً"، لعائلة مثلاً أو لـ"جماعة". كما أنّه لا يعرف ممارسة "السجود للقربان" كما في الغرب. لأنّ العبادة ليست تقوى شخصيّة أبداً، بل هي حدث تقديم شركة القدّيسين للعالم إلى الله. القربان ليس موضوعاً للتأمّل الفرديّ. القربان الإلهيّ هو حدث يحقّق شركة القدّيسين كجسد للمسيح حيّ. لذلك باستثناء حالات طارئة مرضيّة وحالة الصوم الليتورجيّ لأيّام الصوم الكبير، لا يجري تناول القربان المقدّس دون إقامة القدّاس الإلهيّ. ليست الليتورجيا، وخاصّة سرّ الشكر، لحظات نستمدّ منها قوّة لحياتنا اليوميّة وحسب، إنّما هي حدث يُحي شركة الناس ببعضهم ويُصلح الروابط ويعيد بنيتها الصحيحة. ليست الليتورجيا إذن عملاً فرديّاً إنّما حدث شركويّ -جماعي. ولا يستطيع الكاهن وحده مثلاً أن يقدّس القرابين ولو قرأ نصوص القدّاس كلّها عشر مرّات، وذلك دون وجود "شركة". الشركة هي التي تستمد النعمة في الليتورجيا.

 الذي جعل الأخلاقيّات المسيحيّة تُصاب بالضعف والهزل هو عزلها عن الليتورجيا. وذلك حين تُدرَس بمعزل عنها كمادّة "تشريع" أو "مثاليّات" مسيحيّة. حيث تبدأ الأخلاقيّات المسيحيّة تهتمّ بتحديد الفضائل المسيحيّة، وتعطي للتعليم المسيحيّ طرقاً وأمثلة ومُثُلاً للحياة ليقلّدها إنسان اليوم ويلتزم بها، وعلى أساس ذلك يتمّ تقييمه والحكم عليه. وصارت هناك نماذج للحياة ثابتة لا تتبدّل عبر الزمان ولا باختلاف المكان... وهذه تدين العالم، كما شاع هذا في الغرب. لا تسمح الحياة الليتورجية باستقلاليّة الأخلاق والحياة المسيحيّة ولا تدعها تتمحور حول نواميس محدّدة. الحياة المسيحيّة المثاليّة هي الحياة اليوميّة بعد "تجلّيها" ليتورجيّاً.

المعلّم الأخلاقيّ المسيحيّ الأوّل في الكتاب المقدّس هو بولس الرسول. وعند بولس التعليم الأخلاقيّ هو ليتورجيّ. لذلك نجد في كلّ عباراته الشهيرة الصيغ الليتورجيّة. "فإذا قمتم مع المسيح... أميتوا أعضاءكم التي على الأرض... اخلعوا الإنسان القديم وأعماله والبسوا الإنسان الجديد..." هذه كلّها صيغ ليتورجيّة (موت المسيح وقيامته- المعموديّة خلع اللباس وارتداؤه). الوصايا الأخلاقيّة عند بولس - على كثرتها وقوّتها - هي أسباب ونتائـج لـسرّ المعموديّة والتجديـد وسرّ الشكر. فأخلاقيّاتنا هي أخلاق تلك الشركة الليتورجيّة حين نودع أنفسنا مع والدة الإله وجميع القدّيسين ونجعل حياتنا كلّها للمسيح الإله.

أخلاقيّاتنا ليست شرائعاً جديدة أو قديمة، إنّما هي طبيعة حية "لشركة مقدّسة". لا تعتمد الكنيسة إذن "مجموعةَ وصايا" أخلاقيّة ثقيلة تفرضها على الناس، وأحياناً نحن لا نحفظها، لتقود الناس مقيّدين إلى تصرفات خلقيّة محدّدة. وإنّما "تجلّي" الكنيسة الناس "كأولاد الله" الأحرار وتنقيهم وتحرّرهم من الروابط والميول الخاطئة. لعلّ السبب الأساسيّ لمظاهر الإلحاد اليوم هو تلك الأخلاقيّات المسيحيّة المنعزلة عن الليتورجيا التي سبق وصفها. حين تظهر كشرائع "مسيحيّة" على الإنسان حفظها وتطبيقها من قرون ولقرون عديدة دون الشعور منه بأنها تطابق حياته فعلاً وأنها ضروريّةٌ لها. لذلك تبدو هذه الأطر والوصايا الأخلاقيّة "سجناً". وهذا ما يجعل هذه المبادئ تسقط. عندها يسرع المهتمّون والغيورون إلى إيجاد حلول جديدة معتمدين على تقوية الوعظ والتعليم الدينـيّ والتأليف وغيرها مثلها؛ وكأنها ستكون رادعاً أمام تدهور الأخلاق. بينما الحلّ الحقيقيّ هو إحياء الحياة الليتورجيّة. حيث الوعظ والتعليم... كلّه يشكل أداةً فيها وليس غاية. فإنّ "الكلمة" في المسيحيّة ليست فنَّ الكلام بل هي "الشخص" الذي سوف يمسّ قلب كلّ إنسان ويتّحد به. فالكلمة تخدم حدث وحدة الله بالإنسان وهذا ما تحقّقه الليتورجيا، حيث هناك نلاقيه. يقودنا الوعظ والتعليم إلى إدراك أهميّة أن نكون "شركة ليتورجيّة" ويجعلنا نمارس هذه الحياة الليتورجيّة التي تجعل "التجلّي" حدثاً دائماً وتخمّر بالنعمة العجين كلّه. يجب ألاّ يأخذ التعليم مكان الليتورجيا وهو، في تقليدنا، ما يقود إليها. إنّ بشارتنا ليست وعظاً وإنّما محاولة لبناء "شركة" ليتورجيّة. الكنيسة تسير إلى المذبح وليس إلى المنبر، هذا الأخير يشير إلى الأوّل. الاجتماعات جيّدة ولكنّ الليتورجيا هي الاجتماع الحقيقيّ. الجماعة ليست حكماً كنيسة كلّما اجتمعت، وإنّما فقط عندما تكون في عنصرة وفي تقديس وفي ليتورجيا.

4- تلغي الليتورجيا الفارق بين الدهر والإسْخَتا (έσχατα):

إذا كنّا نؤمن أنّ الأبديّة تلتحم بالزمن بواسطة الليتورجيا، فهذا يجب ألاّ يقودنا للاعتقاد بحركة نحو حلمٍ بـ "فردوس أرضيّ"! تقدّس الليتورجيا التاريخ، نعم. لكنّها لا تجعل الأبديّة محصورة في التاريخ. لذلك كما من صلب الليتورجيا هو تقديسها للزمن، كذلك هو روح السهر والانتظار للأبديّة. ففي الليتورجيا يتحقّق التذوّق المسبق. ولكن هذا التذوّق لا يلغي مسبقاًَ انتظار "الكلّ". يتحقّق في الليتورجيا العربون عن الأبديّة. لذلك تقودنا الليتورجيا إلى الأبديّة والاسختا، وتهيّئُنا إليها.

تطهّر الليتورجيا المعركة الروحيّة الداخليّة وتغذيها بالروح من ناحية. لكن خارج لحظاتها ينتظرنا عالم يحرّك هذه المعركة ويطاردها، من ناحية أخرى. ولن تتمّ الغلبة إلاّ "في منتهى الأيّام". لذلك لا تنمّي الليتورجيا فينا الحلم بعالمٍ فردوسي هنا، إنّما تفتح طريق الجهاد والسعي والمحاولة لتخمير عالمنا هنا بخمير العالم الآتي، إلى حين يأتي المنتهى ويخمّر العجين كلّه.

إلى ذلك الحين تعطي الليتورجيا شبه غلبة، وتذوّقاً وعربوناً. لذلك تحافظ الليتورجيا في طقوسها وصلواتها ونصوصها على ابراز حقيقة هذا الصراع وعلى التذكير بالمعركة القائمة بين الله والشيطان، فنحن نسعى فيها وينمو فينا الانتظار إلى جانب الغلبة. هناك حوار تقديسيّ نقيمه في الليتورجيا بيننا وبين العالم، وهو في مدّ وجزر، لكن الكلمة الفصل ستكون في "المجيء الثاني" الذي تريد الليتورجيا أن تنمّي فينا انتظاره.

خاتمة

إنّ أزمة الحياة الروحيّة اليوم، وصعوبة لقاء الإنسان بالكنيسة اليوم هي تماماً هذه الازدواجيات المرهقة، التي تخلق نوعاً من الانفصام في الشخصيّة. تسعى وتحاول بعض الحلول والشرائع أن تقلّص الهوّة بينها ولكن نراها بالواقع تزيدها. إنّ الحياة الدينيّة بالأسلوب القديم لم يعد ممكناً لإنسان اليوم، الذي يرفض كلّ سلطان لأي مبدأ أو إله لا يراه يمسّ حياته ويغذّيها! من حقّ العالم اليوم ألاّ يكون متديّناً (بالمعنى الظاهريّ للكلمة)، ما دام الدين لون من ألوان علم الاجتماع أو التعليم والوعظ. ولكن من واجبنا أن نُحيي الحياة الليتورجيّة كطريقة تواجد وحياة "شركة" كنسيّة لا تؤزّمها هذه المتناقضات، حيث يجد فيها الإنسان ذاته وعلاقته مع الله والقريب في حريّة الروح.

الليتورجيا هي ميزة الكنيسة الأرثوذكسيّة وهي التي ستحفظنا من العلمنة، وهي بالنهاية الحلّ للإنسان والعالم كلّه.

المطران بولس يازجي (من كتاب السائحان- الجزء الأول)

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com