عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

مفهوم الثالوث وكيف نعيشه الأب د. لويس حزبون

مفهوم الثالوث وكيف نعيشه

الأب د. لويس حزبون

2015/05/30

في احد الثالوث (متى 28: 16- 20) يختتم متى إنجيله في ترائي يسوع لتلاميذه في الجليل ويرسلهم ان يعمدوا باسم الاب والابن والروح القدس واعداً اياهم بحضوره الدائم. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

أولاً: وقائع النص الانجيلي (متى 28: 16-20)

16 وأَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه": تشير عبارة "الأَحَدَ عَشَر" الى ان يهوذا قد ترك الرسل الاثني عشر وحلَّ محله الرسول متِّيا (اعمال الرسل 1: 26). أما كلمة "الجَبَلِ" فتشير الى جبل في الجليل يتعذر تحديده. على الجبل بدأ يسوع رسالته، فاشرق النور (متى 4: 16)، والى الجليل دعا يسوع تلاميذه في نهاية رسالته (28: 7-10)، لينطلقوا من حيث هو انطلق، فيصلوا الى "جميع الامم".

17 "فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا": تشير عبارة "رَأَوهُ" الى انهم رأوه ليس فقط بعين الجسد، انما بعين الايمان ايضا. فجسد يسوع جسد ممجّد. أما عبارة "سَجَدوا له" فتشير الى انهم سجدوا له كما فعلت النسوة. بدأ انجيل متى بسجود المجوس وهم يمثلون الامم، وهو ينتهي بسجود التلاميذ الذين يرسلهم الى جميع الامم. اما عبارة "ارْتابوا" فتشير الى ان وضع كنيسة متى كان يتأرجح بين الشك والايمان. الشك حاضر في كل فعل إيمان نقوم به.

18 "فَدَنا يسوعُ وكَلَّمَهم قال: إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض": تشير عبارة "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض" الى ان يسوع الذي رفض على جبل التجربة ان ينال من الشيطان السلطان الذي عرضه عليه. وهذا السلطان هو السيطرة على ممالك العالم (متى 4: 9-10)؛ يُعلن متى الانجيلي أن يسوع نال من الله ليس فقط السلطان على كل ممالك الارض كما جاء في نبوءة دانيال "وأُوتِيَ سُلْطاناً ومَجداً ومُلكاً فجَميعُ الشُّعوبِ والأُمَمِ والأَلسِنَةِ يَعبُدونَه وسُلْطانُه سُلْطانٌ أَبَدِيّ لا يَزول ومُلكُه لا يَنقَرِض" (دانيال 7:14)، وإنما ايضا على السماء وذلك وفقا لاعتقاد الكنيسة الاولى (اعمال الرسل 13: 33)، وما يؤكده القديس بولس الرسول (رومة 1: 4). فاصبح المسيح "رب السماء والارض" فالعالم كله خاضع له. والكون كله، مسكن الله ومسكن البشر (اعمال الرسل 13: 33). وقد حقق يسوع ذلك عبر سر الفصح.

19 "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس": لقد اعطى الله للمسيح سلطاناً على السماء والارض، وعلى أساس هذا السلطان ارسل يسوع تلاميذه ان يتلمذوا ويعمدوا ويعلموا؛ إذ نجد في هذه الآية ثلاث كلمات: اذهبوا، وتلمذوا، وعمّدوا. وتشير "إذهبوا" كما ارسل ألاب ابنه يسوع الى الخراف الضالة من بني اسرائيل" (متى 10: 5-6) كذلك يرسل يسوع تلاميذه الى جميع الأمم". وكلمة "أمم" لا تدل هنا على الوثنيين فقط، بل على اليهود ايضا (لوقا 24: 9)، فتمَّت نبوءة اشعيا "جَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم" (42: 6). فالمسيح، رب الارض والسماء، قد مات لأجل خطايا كل الناس. وبعد التلمذة هناك العماد؛ وهذا ما حدث في الجماعة المسيحية الاولى الذين هم تابوا واعتمدوا كما اكد بُطرُس "توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس" (اعمال الرسل 2: 38). ويتم العماد باسم الثالوث. وكلمة "بِاسْمِ" تشير الى قيام علاقة شخصية بين المعمَّد والآب والابن والروح القدس كما يُبيّن ذلك بولس الرسول الى اهل قورنتس "أَتُرى المسيحُ انقَسَم؟ أَبولُسُ صُلِبَ مِن أَجْلِكُم؟ أَم باَسمِ بولُسَ اعتَمَدتُم؟ (1 قورنتس 1: 13). اما عبارة "الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس "فهي صفة ثالوثية معروفة في الكنيسة الاولى كما يظهر من تحية بولس الى اهل قورنتس "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (1 قورنتس 13: 13). وكان على التلاميذ ان يعمّدوا الناس، لان المعمودية تربط المؤمن بيسوع المسيح في موته وقيامته للحياة الابدية. فالمعمودية تُبين قدرة يسوع الفصحية في رسالة الكنيسة ولعلاقتها الوطيدة بالأقانيم الثلاثة. ان وجود الملايين في العالم اليوم الذين لم يسمعوا قط اسم يسوع المخلص فهو عار وفضيحة لنا جميعا نحن الذين اوصانا يسوع ان نتلمذ جميع الامم.

20 "وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم": بعد الارسالية والتلمذة والعماد يبدأ التعليم كما نرى في الجماعة المسيحية الاولى "كانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل" (اعمال الرسل 2: 42). اما عبارة "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" فتشير الى ان المسيح القائم من بين الاموات يستخدم هذه الكلمات ليدلَّ على حضوره الالهي كما كان الله مع اسحق (تكوين 26: 24) ويعقوب (تكوين 28: 20) ويوسف (تكوين 39: 2) وموسى (خروج 3:12). وهو الآن مع الرسل. الم يُلقب يسوع "عمانوئيل" أي الله معنا. وقد تحقق وعد حضوره لا في وقت محدد فحسب بل حتى انقضاء العالم، كما ان حضوره لن يكون مع شعب واحد (عدد 14: 9) بل مع جميع الشعوب التي يُرسل الله اليها خلاصه (اعمال الرسل 28: 28). ويسوع لا يمنح عطايا خاصة (يوحنا 20: 22) او حضوراً ثابتا (متى 18: 20)، بل عونا فعّالا "طوال الايام" حتى في الاضطهاد. وبذلك يكون هذا الحضور مماثلا لحضور الروح القدس "وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16). اما عبارة "إِلى نِهايةِ العالَم" فتشير الى ان يسوع يأتي ثانية كما وعد. وبعبارة أخرى كان يسوع مع تلاميذه بالجسد الى ان صعد الى السماء، وبعد صعوده كان معهم روحياً بالروح القدس (اعمال الرسل 1:4)، فالروح القدس يحقق وجود يسوع معهم، ولن يتركهم أبدا (يوحنا 14: 15) فيسوع معنا بروحه.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

بعد دراسة وقائع النص الانجيلي (متى 28: 16- 20) نستنتج ان متى اختتم انجيله بثلاث نقاط: الوحي والرسالة والوعد. الوحي ان يسوع اصبح رب السماء والارض بفضل قيامته، وأما الرسالة فهي اذهبوا تلمذوا وعمدوا. وفي هذه الرسالة تُظهر قدرة يسوع الفصحية وعلاقتها بالأقانيم الثلاثة اي الثالوث الاقدس؛ واخير الوعد بان يبقى الله معنا . ومن هنا يُمكننا ان نشدد على مفهوم الثالوث وكيف نعيشه حسب تعاليم السيد المسيح. وخير كلام في الثالوث ما قاله السيد المسيح عن طريق العماد ومحبة الله وما اعلنه عن الله آب.

1) مفهوم الثالوث عن طريق العماد

سر الثالوث هو سر ذات الله العجيبة، سر حياته الداخلية، سر كماله رسالته في ذاته. الله واحد في الطبيعة الالهية بثلاثة أقانيم. وكل اقنوم هو الله كاملا: "الآب هو ذاتُ ما هو الابن، والابن هو ذات ما هو الآب، والآب والابن هما ذاتُ ما هو الروح القدس، أي الاله واحد بالطبيعة" (التعليم المسيحي 253). والأقانيم الإلهية متميزون في ما بينهم بعلاقات مصدرهم: "الاب هو الذي يلد، والابن هو المولود، والروح القدس هو المنبثق" (التعليم المسيحي 254). وعليه فإن الله في وحدة الهية ثلاثية، وكل اقنوم الهي يعمل العمل المشترك وفقا لميزته الشخصية كما جاء في تعليم الكنيسة "بالله الآب الذي منه كل شيء، بالرب يسوع المسيح الذي له كل شيء، وبالروح القدس الذي فيه كل شيء" وفقا لتعليم بولس الرسول "أَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا." (1 قورنتس 8:6).

وكشف السيد المسيح عن سر الثالوث عن طريق العماد. إذ أرسل يسوع رسلَه قائلا لهم: "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس، (متى 28: 19-20). إن كلمات يسوع تؤكد حقيقة الثالوث حيث ان مفهوم الثالوث يأتي مباشرة من يسوع المسيح نفسه. فلم يقل يسوع لتلاميذه عمِّدوهم بأسماء بل "باسم" ألاب والابن والروح القدس. وعليه فإن المسيحيين يُعَمَّدون "باسم" وليس "بأسماء" الآب والابن والروح القدس، لأنه لا يوجد سوى إلهٌ واحد: الآب الكلّي القدرة والابن الأوحد والرُّوح القدس: الثالوث الأقدس. (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 233). فإيمان المسيحيين يرتكز على الثالوث الأقدس.

بالرغم من ذلك لم ترد كلمة الثالوث في الكتاب المقدس، ولكنها تعبر تماما عن الاله الواحد المثلث الأقانيم: ألاب والابن والروح القدس.

إن العماد باسم الثالوث : الآب والابن والروح القدس (متى 28: 19) تعبّر بصفة ممتازة عن أن المُعَّمد المتحد بالابن، متّحد في الوقت نفسه بالأقنومين الآخرين: فالمؤمن يقبل في العماد باسم الرب يسوع، وبفعل روح الله (1 قورنتس 6:11)، فيصير هيكلاً (1 قورنتس 6: 19) وابناً بالتبنّي للآب (غلاطية 4: 5-6)، وأخا وارثاً مع المسيح، ويُعد لمشاركة مجده (أفسس2: 6). وكل الذين يقبلون العماد يكونون فضلاً عن ذلك "متحدين بعضهم ببعض في وحدة المسيح ذاتها "لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع" (غلاطية 3: 28).

2) مفهوم الثالوث عن طريق " الله محبة"

من بين جميع الكلمات البشرية تبقى كلمة " المحبة" هي التي تسمح لنا أن نتبيَن، على أفضل وجه، سرَ الثالوث الإلهي والهبة المتبادلة والأزلية ببن الآب والابن والروح القدس. يقول القديس أوغسطينوس: "يتطلب الحب مَن يُحِبّ ومن يُحَبّ والحب عينه". الآب، في الثالوث الأقدس هو المُحِبّ، نبع وأصل كل شيء؛ الابن هو المحبوب؛ الروح القدس هو الحب الذي يربطهما.

لقد استطاع يوحنا الحبيب الذي عاش اختبار المحبة والإيمان أن يُعبر عن حقيقة الله المثلث الأقانيم بتعريفه "الله محبة"(1 يوحنا 4: 8). إذ كشف الله، بإعطائه ابنه، أنه هو الذي يعطي نفسه حباً بنا "إِنَّ الَّذي لم يَضَنَّ بابْنِه نَفسِه، بل أَسلَمَه إِلى المَوتِ مِن أَجْلِنا جَميعًا، كَيفَ لا يَهَبُ لَنا معَه كُلَّ شَيء؟" (رومه 8: 32). وإذ يحيا الابن الوحيد مع أبيه في حوار محبة مطلقة يكشف أيضاً أنه هو والآب "واحد" منذ الأزل كما صرّح يسوع في انجيل يوحنا "أَنا والآبُ واحِد". (يوحنا 10: 30)، وأنه هو ذاته الله "الكَلِمَةُ هوَ الله "(يوحنا 1:1). ويعرِّفنا الابن الوحيد، الذي في حضن الآب، بالله الذي "ما رآهُ أَحدٌ" (يوحنا 1: 18). وهذا الإله الواحد قائم فيه وفي أبيه المتّحدين في الروح القدس. وفي إنجيل يوحنا يتحدث يسوع عن علاقته بالآب قائلاً: "أنا في الآب والآب فيّ" (يوحنا 14، 10–14)؛ "الآب فيّ وأنا في الآب" (يوحنا 10، 38).وقد ساعد علم النفس على فهم خصائص الحب أنه "يوحّد دون أن يذيب الآخر او ضياع ثنائيتهما" كما جاء في كتاب "فن الحب" لعالم النفس أريك فروم. ويوضح الفيلسوف الكبير هيغل هذا الحب بتعريفه ان" الحب هو تمييز بين اثنين بحيث يعيشا وعيًا مشتركًا وهذا الوعي هو وعي بأنهما خارج ذواتهما من أجل الآخر." طبيعة الحب هي أنها توحد دون إزالة الاختلاف. الاختلاف ليس خلافًا أو انشقاقًا. وهذا النوع من الحب يظهر في الثالوث الأقدس بشكل كامل. فأقانيم الثالوث الأقدس هي متحدة لا لتشكل اختلاطًا عشوائيًا، بل لكي يكون أحدها في الآخر، إذا جاز التعبير.

وإذا نظرنا إلى أيقونة الثالوث كما صورها الراهب والفنان الروسي أندريي روبليف، نرى في نظرات الأقانيم الثلاثة حضور وشركة. في هذه الشركة يهب كل من الأقانيم ذاته للآخر ويفسح المجال لحضور وكيان الآخر. ونحن لا نصل إلى إدراك "الله محبة إلا بيسوع المسيح، عندما نعرف في شخصه محبة الله لنا (يوحنا 4: 16). إن الله، عندما أسلم "ابنه الحبيب" للموت من أجلنا (مرقس 1: 11)، قد أثبت لنا (رومة 5: 8) أن "أنه يحب العالم" (يوحنا 3: 16). دليل على أنه يحبنا بنفس الحب الذي يحب به ابنه الوحيد، فهو يهبنا المحبة التي تجمع بين الآب والإبن والتي هي روحهم القدوس.

3) مفهوم الثالوث عن طريق "الله آب"

علمنا يسوع ان نصلي "فَصَلُّوا أَنتُم هذِه الصَّلاة: أَبانا الَّذي في السَّمَوات..." ( متى 6: 9) . بدون الرّب يسوع لا نعرف من هو "الآب" حقّاً. أن الرّب يسوع ليس لديه اتصال خارجي فقط بالآب بل هو جزء لا يتجزّأ من الكيان الإلهي بكونه ابناً. من قبل إنشاء العالم كان الله محبة: محبّة الآب والابن. في صلاة الرّب يسوع، ينكشف ما في داخل الآب وبها نستطيع أن نرى كيف هو الله.

إن الله الذي يعلنه لنا يسوع المسيح هو أبوه، فيخاطبه بلقب "أبّا". ولكن هو أيضاً إلهه، لأن الآب، الذي له الألوهية بدون أن يستمدها من أحد آخر، يعطيها كلها للابن المولود منه أزلياً، وللروح القدس الذي فيه يتحد كلاهما. وهكذا يعلن لنا يسوع عن مطابقة الآب والله، وعن السر الإلهي، وعن سر الثالوث. ويردد بولس ثلاث مرات العبارة التي تعبر عن هذا الإعلان: "إله ربنا يسوع المسيح وأباه". وبعبارة أخرى يتجلّى الثالوث بكل وضوح في صلاة الرّب يسوع.

كما يكشف لنا المسيح عن الثالوث الإلهي بالطريقة التي خلقنا الله على صورته، صورة علاقة البنوة. إن خير شهادة عن ذات الله المثلث الاقانيم نجدها في الخلق، إذ جُعل الإنسان "على صورة الله كمثاله" اذ قال الله "لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا (تكوين 1: 26). الله الثالوث كلّه جعل الإنسان على صورته. فمن خلال الذاكرة، هو يشبه الآب؛ ومن خلال الذكاء، هو يشبه الابن؛ ومن خلال الحبّ، هو يشبه الروح القدس. وقال صاحب المزامير ايضا "نُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ" (مزمور 35، 10) أي من النور الذي هو الآب ندرك النور الذي هو الابن بنور الروح القدس: هذا هو لاهوت الثالوث الأقدس باختصار.

4) كيف نعيش الثالوث على الصعد الفكري والعملي:

على الصعيد الفكري: الإيمان المسيحي يقوم على الإيمان بالثالوث الأقدس. فالثالوث الأقدس هو جوهر إيماننا المسيحي والحياة المسيحية. إنّه سرّ الله بذاته. هو منبع كل الأسرار الأخرى للإيمان، وهو النور الذي ينيرها. هو التعليم الأساسيّ لحقائق الإيمان. فالثالوث هو سرّ إيمان، سرٌّ لا يستطيع أن يدركه العقل البشريّ المجرّد، الا عن طريق تجسّد ابن الله وعمل الروح القدس" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 237). إن فكرنا أصغر بكثير من فكر الله، ولذا من المستحيل لنا أن ندرك جوهر الله العميق. ولكن إذا لم يكن باستطاعتنا أن نغمر المحيط بأيدينا يمكننا أن نغوص فيه؛ لا يمكننا أن نحيط بالثالوث الأقدس فكريًا، ولكن يمكننا أن نلج فيه!

وقد لخَّصت القدّيسة تيريزيا الآفيليّة، معلمة الكنيسة، سر الثالوث بكلمات بسيطة بقولها:

"أدركتُ أن في الله ثلاثة أقانيم مستقلة، ولكلّ واحد منهم ميزته الخاصّة. ثمّ قلت لنفسي إنّ الابن وحده تجسّد، ممّا يؤكّد حقيقة تلك الاستقلاليّة. هؤلاء الأقانيم الثلاثة يعرفون بعضهم بعضًا، يحبّون بعضهم بعضًا ويتواصلون فيما بينهم. لكن، إن كان تلك الأقانيم مستقلة، فكيف يمكننا أن نقول إنهم من الجوهر نفسه؟ في الواقع، هذا ما نؤمن به. هؤلاء الأقانيم الثلاثة يتمتّعون بإرادة واحدة، بسلطة واحدة وبسيادة واحدة، حتّى إنّ أحدًا منهم لا يستطيع أن يفعل شيئًا بدون الآخرين وأنّ خالقًا واحدًا خلق كلّ شيء. أيمكن للابن أن يخلق نملة بدون الآب؟ طبعًا لا، لأنّهما يملكان سلطة واحدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الروح القدس. إذًا، الأقانيم الثلاثة يشكّلون إلهًا واحدًا. أيمكن لأحد أن يحبّ الآب بدون أن يحبّ الابن والروح القدس؟ لا، لكن مَن كان لطيفًا مع أحد الأقانيم الثلاثة، كان لطيفًا مع الثلاثة. ومَن أهان أحدهم، أهان الاثنين الآخرين. أيمكن أن يكون الآب موجودًا بدون الابن والروح القدس؟ لا، لأنّهم يملكون الجوهر نفسه. وحيثما يكون أحدهم، يكون الاثنين الآخرين لأنّهم لا يستطيعون الافتراق. إذًا، كيف لنا أن نرى ثلاثة أقانيم مستقلّة؟ كيف تجسّد الابن ولا الآب أو الروح القدس؟ لم أفهم ذلك. لكنّ اللاهوتيّين فهموا. ما أعرفه هو أنّ الأقانيم الثلاثة شاركوا في صنع ذاك السرّ العجيب. تعلّقت نفسي بهذه الحقيقة: الربّ هو كلّي القدرة، استطاع ما أراده وسيتمكّن من صنع كلّ ما يشاء. فكلّما عجزت عن فهم هذه الأمور، ازداد إيماني وازدادت عبادتي. فليتقدّس اسم الربّ من الآن وللأبد. آمين" (العلاقات رقم 33).

اما على الصعيد العملي فنحن بنعمة المعمودية "باسم الاب والابن والروح القدس" (متى 19:28)، مدعوون الى الاشتراك في حياة الثالوث السعيدة، ههنا في ظلمة الايمان، وهنالك بعد الموت في النور الازلي. نَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه" (1 قورنتس 13: 12). فالحياة المسيحية شركة مع كل من الأقانيم الالهية: ألاب والابن والروح القدس. من يمجّد الآب يمجّدُه بالابن في الروح القدس، ومن يتبع المسيح يتبع الآب، لان الآب يُجذبه كما جاء في قول يسوع "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يُقبِلَ إِليَّ، إِّلا إِذا اجتَذَبَه الآبُ الَّذي أرسَلَني. (يوحنا 6: 44)، ولانّ الروح القدس يُحرِّكه كما يؤكد بولس الرسول "إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. (رومة 8: 14). واختصار أن أكون مسيحياً يعني أن أستطيع القول مع الرّب يسوع "أبانا" وأن أصبح بذات الفعل "ابناً" أي ابناً لله الآب في وحدة الرّوح القدس الّذي يقودنا إلى الوحدة مع الله.

دعاء

أيّها الإله الواحد في الثالوث القدّوس ايها الآب الازلي، يا من ارسلت الى العالم كلمة الحق وروح القداسة، هب لنا ان ندرك مجد الثالوث في الأقانيم، وان نسجد لوحدته في القدرة والجوهر وللتساوي في الجلال. المجد للآب والابن والروح القدس الَّذي هو "كائِنٌ وكانَ وسيَأتي، وهو القَدير (رؤيا 1: 8). "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (1 قورنتس 13: 13).

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com