عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

بشارة العذراء في الناصرة الأب د. لويس حزبون

بشارة العذراء في الناصرة

الأب د. لويس حزبون

يصف لوقا الانجيلي بشارة الملاك جبرائيل للعذراء في الناصرة بانها ستكون أمُّاً للمسيح المخلص (لوقا 1: 26-38). وبهذه البشارة تبدأ مرحلة تحقيق وعد الله بالخلاص منا جاء في سفر التكوين "وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه. (3/15). ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع حدث البشارة (لوقا 1: 26-38) وتطبيقاته.

وقائع حدث البشارة

26 "وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ اسْمُها النَّاصِرَة": عبارة "الشهر السادس" تشير الى حمل اليصابات "لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً"، (لوقا 1/ 36). فربط لوقا الإنجيلي حدث بشارة ميلاد يوحنا مع بشارة ميلاد يسوع في تاريخ الخلاص. فانطلق الخلاص من الله الذي "ارسل". الله هو الذي اتخذ المبادرة، "لَسنا نَحنُ أَحبَبْنا الله بل هو أَحَبَّنا فأَرسَلَ ابنَه كَفَّارةً لِخَطايانا." (1 يوحنا 4/ 10). اما "الملاك جِبرائيلَ" فهو الكائن الروحانيّ الّذي يرسله الله دوماً ليحمل رسالة؛ فحضوره هو ضمانة لتدخل الله في تاريخنا. واسم "جبرائيل" يعني "قوّة الله"، هي القوّة نفسها التي وعد الله بها مريم كضمانة لتحقّيق الوعد "قوّة العلي تظلّلك". اما " الناصرة: فهي غير معروفة في العهد القديم ، وكانت قرية لا شأن لها في عهد المسيح (يوحنا 1/46) ، لكن لوقا يسمِّيها "مدينة" كسائر قرى بيت لحم (2/4) وكفرناحوم 4/31) ونائين (7/11). وعليه ينتقل لوقا من الهيكل في اورشليم في اليهودية الى الناصرة في الجليل التي احتقرها معاصرو يسوع لأنها كانت محط أنظار التجار الوثنيون والجنود الرومانيون لوقوعها على طريق تجاري كبير( يوحنا 1/46).

27 "إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم": اسم "مريم" معناه في الاصل المصري محبوبة (الاناشيد 8/ 10) . وأما كلمة "عذراء" فتعني الكلمة اليونانية παρθένος فتاة غير متزوجة او عذراء . وعليه يشير لوقا منذ البداية الى بتولية مريم، فيُبعد كل التباس عن زواجها ويُمهِّد الحبل العجائبي بيسوع (1 /34). اما كلمة "مخطوبة" فهي تشير الى ان مريم كانت متزوجة شرعا ليوسف لكن المساكنة لم تتم (1/34) ، إذ كانت العادة اليهودية تنص عن مهلة شهرين او ثلاثة من عقد الخطبة ( 2/5)، قبل ان تُزف العروس الى بيت عريسها ( متى 25/1-13). وعليه كانت مريم مرتبطة بيوسف حسب الشريعة، ولكنها لم تنتقل بعد الى بيته للحياة المشتركة. وبما ان مريم نسيبة اليصابات فهي من نسل كهنوتي، ويوسف هو من نسل ملوكي، نسل داود الملك، فقد اجتمعت الملوكية والكهنوت في يسوع. وأن الوعد الذي وُعد به داود قد تمّ بوساطة يوسف.

28 "فدَخَلَ إلَيها فَقال: (( إفَرحي، أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ )). عبارة "افرحي " تعني ان مريم هي المنعم عليها بشكل فائق. قيلت هذه التحية قبلا لإورشليم، بنت صهيون ( صفنيا 3 /14) في سياق عن الوعد الالهي بالخلاص. وعليه إنَّ مريم هي بنت صهيون الحقيقية المطلوب منها ان تتكلم باسم الشعب لقبول الوعد . فحدث البشارة هو حدث نعمة وفرح، يبدأ مع مريم لكيما يتحقّق بملئه بالمسيح المولود منها ويطال البشريّة بأسرها. ,واما عبارة "أَيَّتُها الـمُمتَلِئَةُ نِعْمَةً": فهو لقب أطلق على مريم. ولا يرد في الكتاب المقدس الا في سفر يشوع بن سيراخ (18/17) ورسالة بولس الى أفسس ( 1/6). وكلمة "الممتلئة" التي هي بصيغة المجهول تشير الى أن الله هو الّذي ملأها نعمةً. اما كلمة "نعمة" فتدل في العهد القديم اليوناني على حظوة الملك(1صم 16/22) ثم على حُب الحبيب (أناشيد 8/10). وعليه فإنَّ مريم نالت نعمة الرب وحبه. وعبارة "الرَّبُّ مَعَكِ" هي عبارة مألوفة لتشجيع مريم المدعوة لحمل رسالة الرب وتحمل مسؤوليتها مثل موسى(خروج 3/12) وجدعون (قضاة 1/8) وارميا (6/12) . إنَّ الله معهم حيثما اتجهوا (تكوين 28/15) ولكن مع مريم بشكل فريد. "وان كان الله معنا ، فمن علينا" يقول بولس الرسول ؟ ( رومة 8/32).

29 "فداخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ وسأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام ؟" : عبارة "داخَلَها لِهذا الكَلامِ اضطرابٌ شَديدٌ" سلام الملاك أشْعَرها بدعوتها الفريدة. واما عبارة "سأَلَت نَفسَها ما مَعنى هذا السَّلام" تشير الى ان مريم أخذت تفكّر في بلاغ الملاك وتحاول فَهم سر هذا الوحي الذي لم تكن تتوقعه وتنتظره.

30 "فقالَ لها الـمَلاك: (( لا تخافي يا مَريَم، فقد نِلتِ حُظوَةً عِندَ الله." : "لا تخافي" كلمة محوريّة في الإنجيل. وهي لا تعني ستكون حياتك سهلة ودون تضحيات، بل تعني ثقي بالله وبقدرته. هي كلمة يوجّها الملاك عبر مريم الى كلّ تلميذ، يدعوه للثّقة والاستسلام بين يدي الله. اما في كلمة "حُظوَةً " أي النعمة يشدد لوقا على الفرح والنعمة التي هي رسالة لاهوتيّة مسيحانيّة لا مريمية فحسب، وتسيّر النّص بأسره، وتختصر حدث البشارة السارة.

31 "فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع." : يستخدم الكتاب المقدس هذه العبارة لينبئ عن المواليد في العهد القديم، لا سيما ولادة اسحاق ( تك 17 /19) . وبهذه الآية قد حان اوان تحقيق نبوءة أشعيا القائل: "إِنَّ العذراء تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل"( اشعيا 7/14). اما لفظ "يسوع" فمعناه (الله يخلص) ( متى 1/21) كما بشّر الملائكة الرعاة (2/11) وقد كُشف هذا الاسم ليوسف ايضا (متى 1/21). وهكذا تكون ابعاد اسم المسيح " لله معنا ليخلصنا" هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم"(متى 1/21). "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" ( اعمال الرسل 4/12). وهذا الاسم يسوع يحمل صفات المخلص ، كالسلطة (يشوع بن نون) والقدرة (اليشاع النبي) والرحمة (هوشع النبي) والقداسة (اشعيا) والحكمة ( يشوع بني سيراخ). وهكذا تصوّر الآية رسالة يسوع بصورة المسيح التقليدية كما ورد في اشعيا (7/14).

32 "سَيكونُ عَظيماً وَابنَ العَلِيِّ يُدعى، وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود،" : كانت هذه الآية نبوءة النبي ناتان الى داود. وفي ميلاد يسوع يتم وعد الله الذي اعطاه لداود الوعد بعرش وملكوت لا نهاية لهما. ولفظة "ابن" تعتبر النعت التقليدي المُطلق على الملك ابن داود. وبهذا يكون يسوع قد حقَّق الوعد الذي عقده الرب لداود بقوله "اقيمُ مَن يَخلُفُكَ مِن نَسلِكَ الَّذي يَخرُجُ مِن صُلبكَ" (2 صموئيل7/14). واما اسم "العلي" أي الله العلي فهو مألوف في الكلام على الله في الادب اليوناني وفي العهد القديم. ولا يستعمل في العهد الجديد الاَّ عند لوقا ( 1/35، اعمال الرسل 7/84). وتوضح هذه الآية اجابة الملاك على تساؤل مريم بان الله هو الآب لهذا الابن المزمع ان يولد منها.

33 "ويَملِكُ على بَيتِ يَعقوبَ أَبَدَ الدَّهر، وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية" : منذ بضع قرون، وعد الله الملك داود أن يدوم ملكه الى الابد بقوله :" يَكونُ بَيتُكَ ومُلكُكَ ثابِتَينِ لِلأبدِ أمام وَجهِكَ، وعَرشُكَ يَكونُ راسِخًا لِلأَبَد ".(2صموئيل 7/ 16) . وقد تمَّ هذا الوعد لما جاء يسوع من نسل داود مباشرة ليستمر مُلك داود الى الابد. يملك يسوع اولا على شعبه في شخص يعقوب أي الشعب اليهودي ثم ينتقل الى الامم " نوراً يتجلى للوثنيين" ( لوقا 2/ 32). وهكذا ينتقل النص من الخلاص الى اليهود الى نظرة شاملة للخلاص للعالم كله.

34 "فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: " كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً ؟" : يشير فعل "َعَرَف" في إطار الكتاب المقدس الى اقامة علاقة زوجية ( تكوين 4/1). أكملت مريم الاستفسار، كيف يمكن لمن لم تعرف رجلاً أن تحبل؟ وعليه اعترضت مريم بان ليست لها علاقات زوجية مع يوسف وانها عذراء (1/27). وسؤالها لا يدل على شك او عدم ايمان كما حدث في سؤال زكريا الكاهن(1/ 18)، انما يدل على ايمان يحاول ان يكشف النور حول سر يسوع.

35 "فأَجابَها الـمَلاك: " إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" : هذه الآية اول اعلان واضح في الكتاب المقدس للثالوث: الآب يظلل العذراء بقدرته، الروح القدس ينزل عليها، الابن يتجسد في أحشائها. إن عبارة " الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ" تشير الى ان الروح القدس هو الذي يُجري عمل الله الخالق كما كان في بداية الخليقة (تكوين 1/2). وعليه فإنَّ التجسد ليس حلولا في جسد سابق الوجود، بل هو خلق جسد انساني دون زرع بشري، فكان لا بد من حلول الروح القدس على العذراء ليولد المسيح. اما عبارة "قُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ" فتشير الى حضور الله في وسط شعبه والى قوّته تعالى المرافقة للشعب في خروجه من أرض العبوديّة.(خروج40/ 34-35) ، والى حضور الآب السماوي لدى تجلي المسيح امام تلاميذه " ظهَرَ غَمامٌ ظَلَّلهُم" (لوقا 9/34) . ولفظة "قُدُّوسً " أي المنزه عن كل خطيئة . والقداسة هي ميزة الله الخاصة (مزمور 22/4). وفي العهد الجديد اول اعتراف بألوهية المسيح بعد العنصرة كان بكلمة "قدوس" تفوه بها بطرس لليهود " أَنكَرتُمُ القُدُّوسَ" ( اعمال الرسل 3/14). مع كون يسوع من جنس آدم لحما ودما ولكنه ولد بلا خطيئة كرئيس لجنس جديد، ولم يخطأ ابداً. ( 2كور 5/ 21) . وان لقب "ابن الله" في نظر لوقا وفي نظر العهد القديم تسمية "للمسيح" . وهو يشير الى سر يسوع بكامله، فيدل على بنوة يسوع الالهية. كلمات الملاك تدعم البنوة الإلهية للطفل المولود من مريم على كونه حُبل به من الروح القدس. ولوقا يجعل من هذه اللقب تعبيرا عن الصلة الخفية التي تربط يسوع بالله. ولا يجعل هذه اللقب في انجيله على لسان البشر ، بل على لسان الآب ( 3/22) والملائكة ( 1/35) والارواح الشيطانية ( 4/3) ويسوع نفسه ( 10/22). وعليه تصور الآية صورة ابن الله المثالي ( رومة 4/1). كشف الملاك سر يسوع الذي هو ابن الله ومسيح شعبه. وتؤكد لنا هذه الآية شخصية يسوع، وتثبت لنا أنه هو الله بالذات.

36 "وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها، وهذا هو الشَّهرُ السَّادِسُ لِتِلكَ الَّتي كانَت تُدعى عاقِراً." الملاك أعطى مريم علامةً: "ها هي نسيبتك اليصابات حامل في شهرها السادس". لقد استطاع الرّب العمل في الحشا الميت، فكيف لا يعمل الرّوح في الحشا البتول؟

37 "فما مِن شَيءٍ يُعجِزُ الله " : استخدمت هذه العبارة للدلالة على حبل سارة العجائبي بإسحاق ( تكوين 18/ 14) لا شيء مستحيل عند الله" يقول الملاك، ومن صار تلميذ الرّب لا يخاف المستحيل، فالله هو سيد المستحيل، وهو يحوّل عقمنا الى حياة، ومرارتنا الى رجاء، يطهّر جسدنا المهشّم بالخطيئة ويجعله هيكلاً لحلول الرب.

38 "فَقالَت مَريَم: أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ. وَانصرَفَ الـمَلاكُ مِن عِندِها": يعبّر جواب مريم " أَنا أَمَةُ الرَّبّ" عن ايمانها الواعي وتكريس ذاتها وطاعتها. وقد شهدت اليصابات على ايمان مريم بقولها: "طوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ( لوقا 1/45). وبذلك ادَّى خضوعها وطاعتها الى خلاصنا. واخذت "جميع الاجيال تطوِّبها". آمنت مريم بكلمات الملاك وقبلت ان تحمل الطفل حتى في الظروف بشرية مستحيلة على العكس ردود فعل سارة أمراة ابراهيم التي ضحكت ( تكوي 18/ 9-15) بينما زكريا شكَّ( لوقا 1/ 18) . فجاء قول القديس برنردس اجمل تعبير عن جواب مريم " أيتها العذراء المباركة، افتحي للثقة قلبك، وللرضى شفتيك، وللخالق بطنك" فان الله قادر ان يعمل المستحيل. فينبغي ان نتجاوب مع ما يطلبه الله لا بالضحك او بالخوف او بالشك بل بإيمان واعٍ وطاعة ومحبة.

تطبيقات حدث البشارة

بعد تحليل وقائع النص الإنجيلي يمكننا ان نتعمق في نقطتين: بُعد حدث البشارة ، والنقطة الاخرى ايمان مريم في البشارة نموذج لإيماننا.

اولا بُعد حدث البشارة:

شهدت مغارة البشارة تحية الملاك جبرائيل. فيها رئيس الملائكة، نزل من عند عرش الله ليحي العذراء مريم، المنعم عليها . فكانت لحظة الدعوة والاختيار، مقدسة للسماء والأرض. مريم اختيرت لتكون والدة ابن الله " إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى." (لوقا 35:1). هذا الحدث لا ينحصر بشخص مريم وينتهي في قولها "فليكن لي بحسب قولك"، بل هو ينطلق من كون مريم مملوءة نعمة ليعطي النعمة للبشريّة بأسرها.

فحدث البشارة إنجيل مصغّر، يحتوي على قصة الله مع شعبه، ويعلن بشرى فرح ونعمة. هي النعمة الأزليّة، كلمة الله الأزلي حلّت في حشا مريم لتعطي الخلاص للأمم بأسرها. فالهدف من خلال البشارة كان تحضير الانسان العاقل والحر حتى يتقبل بإيمانه وطاعته كلمة الرّب التي توجه اليه. وعليه فإنّ مريم هي مثال لنا بعقلها المستنير التي تسعى الى معرفة الله وتمييز إرادته بكل حرية وقواها، لا الرّوحيّة فحسب، بل العقليّة إيضاً. صارت مريم في حدث البشارة معلمّة لنا في استخدامها لعقلها ولفكرها بحرّيتها، وبتمييزها، للخضوع لإرادة الله. وعلمت أن ما يتمّ معها يتخطّى قوى عقلها وإدراكها، فخضعت بطاعة الإيمان، واثقة أن الله يهيئ لها النصيب الأفضل. وجعلت ذاتها "أمة لله" حين علمت أن ما يحدث معها هو مستحيل، ولكنّها في علاقة مع إلله المستحيل.

واضطراب مريم هو صورة لاضطراب بشريّتنا إزاء المستحيل، فكم من مرّات نتساءل "كيف يكون هذا؟"، ونشكّك في قدرة الله على العمل في حياتنا؟ مريم تعلّمنا أن نقبل إله المستحيل، فما من شيء لديه مستحيل. مريم هي ضمانة قيمة فكرنا، فالإنسان مخلوق على صورة الله، يميّزه عقله عن سائر المخلوقات، وبحريّته يقدر أن يقبل مخطّط الله أو أن يرفضه.

كيف يمكن لمن لم تعرف رجلاً أن تحبل؟ وهو سؤالنا اليوميّ نحن الّذين يدعوهم المسيح الى الاشتراك معه في خلاص العالم: كيف يمكن لي أنا الضعيف الخاطئ أن اكون تلميذ المسيح؟ وكيف يمكن للإنسان المجرّب المتألّم أن يحمل في داخله بشرى الخلاص؟ وكيف لي، أنا الّذي تملأ حياتي الآلام والمشاكل أن أبشرّ بإنجيل الفرح والرّجاء؟ جواب الملاك لمريم، أن هو عمل الرّوح القدّس الّذي جعل البتول تحمل المسيح هو جواب لنا نحن ايضاً: الرّوح القدس هو القادر على تحويل حياتنا، ويجعلنا هياكل له مقدّسة، لنحمل يسوع بالرّوح كما حملته مريم بالجسد، ونستحقّ أن نكون له تلاميذ. فإنجيل البشارة هو مدرسة انجيل.

ثانيا: ايمان مريم في البشارة نموذج لإيماننا .

في مغارة البشارة في الناصرة حيّا الملاك مريم الناصرية على انها الممتلئة نعمة، وهنا قالت "نعم" مسلمة ذاتها لإرادة الله. والعذراء اصبحت بقوة الروح القدس ام الكلمة الالهي. فصارت مريم المعلمّة لنا في الإيمان. مريم تعلمنا كيف نعيش ايماننا. تعلمنا ان ننظر، وان نوازن بين الامور، وان ننفذ الى المعنى الحقيقي والسري لظهور ابن الله، الذي هو غاية في البهاء وغاية في التواضع والبساطة كما جاء على لسان البابا القديس بولس السادس في عظته لدى زيارته الناصرة عام 1964.

إنها سمعت وعدا عجيبا من الله؛ وهو ان تكون اما لابن هو مسيح الرب "فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع" (لوقا 1: 31). كان وعد الله امرا غير متوقع حوّل مسار حياتها اليومية واقلق رتابة حياتها وتطلعاتها العادية وبدا وعد الله لها امرأً عسيرا "كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً ؟" (لوقا 1/ 34).

ويُطلب من مريم ان تقول نعم لأمر لم يحدث قط من قبل لكن الملاك جبرائيل يطمئن مريم العذراء "وها إِنَّ نَسيبَتَكِ أَليصابات قد حَبِلَت هي أَيضاً بِابنٍ في شَيخوخَتِها،" ( لوقا 1/36). تضع مريم ثقتها في الله الذي دعاها وهي لا تسأل هل الوعد ممكن ، بل كيف سيتم ولهذا تجيب في نهاية الامر " أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ".(لوقا 1/38) بهذه الكلمات اصبحت اما للمسيح، واماً لكل المؤمنين.

في البشارة مريم أصبحت رمز للنفس المؤمنة ومعلمّة لنا في الإيمان، في التواضع، في الطاعة وفي شجاعة الاستجابة. تعلّمنا الشجاعة في الإيمان، وعدم الخوف من حضور الله في حياتنا، وتعلم كيف نظر الرب ونستعد لمولده في قلبنا. فهو الّذي يحرّرنا، ويقدّسنا، ويجعلنا آنية مقدّسة تحلّ فيها نِعَم روحه، ويحقّق في حياتنا المستحيل. لقد اختارنا ونقّانا منذ خلقنا، لنكون هيكل الله الطاهر يحلّ فينا ليفدي البشر. ولنعلم أنّنا بمعموديّتنا دخلنا مدرسة إله المستحيل، وأن حياتنا ملكه، نضعها في خدمة إنجيله أينما كنّا، لنعلن كلّ يوم للّذين نلتقيهم أن الله هو عمّانوئيل، الله معنا، وهو لا يتركنا. لندع حياتنا أن تكون استسلاما غير مشروط لإرادة الله القدوس ولقيادته.

ولنجدد ايماننا في العمق، فلا يبقى ايماننا موقفاً مبهماً في الحياة، بل يكون اعترافا واعيا وشجاعا بما نؤمن به في قانون الايمان "تجسد بقوة الروح القدس من مريم العذراء وتأنس". ولنتأمل بكل ذلك كلما تلونا صلاة التبشير " السلام الملائكي. ولنردد اخيرا صلاة البابا القديس يوحنا بولس الثاني في مغارة 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com