آراء أرثوذكسية في الكنيسة
مجموعة من المؤلفين { 6}
الكنيسة
للأب سرج بولغاكوف
الكنيسة واحدة, مقدسة, جامعة, ورسولية في القداس الإلهي وحول الكلمة وفي الخدمة.
كيف نستوعب أن الكنيسة, واحدة مقدسة, جامعة, رسولية ؟ كيف نعيها جسد المسيح ؟ هذا يعني بالدرجة الأولى وبشكل بسيط للغاية أن نكون حيث يكون المسيح. والمسيح موجود في القداس الإلهي. وإذاً لا تبجح بالأرثوذكسية عند إنسان لا يذهب إلى القداس الإلهي. مَن يتناول جسد الرب في كل ذبيحة فقد أظهر أنه يفهم إيمانه بشكل أعمق, يتخذ عضويته أكثر فأكثر. من يغرف من الأسرار كلها, من يتصل بالكتاب المقدس ويتفهمه وينشره ويذيعه فهذا أيضاً من الكنيسة بصورة أعمق.
حيث أن الكنيسة هي الالتفاف حول كلمة الله, حول المسيح الذي هو كلمة الله, فهي تعني أيضاً أن نلتزم الأعمال الخيرية التي فيها وأن نقوم بها جميعاً وأن نشارك بها قدر المستطاع. وتعني أن نتبنى حاجات الناس ليس فقط ضمن الجمعيات الخيرية التي لنا ولكن أن يحمل كل منا نصيبه من المسؤولية في هذا العالم عن طريق العمل الاجتماعي والشهادة في الأوساط الذي وضعه الله فيها.
الكنيسة تعني أيضاً الالتفاف حول الأسقف والكهنة, وهذا يعني أن لا نتزلف. لا يجوز أن يُمدح إنسان إلا في تأبينه أو عند غيابه, لأننا عندما نمدحه فشيطان الغرور يمكن أن يتسرب إليه. ومن يمدح إنساناً ولو أسقفاً فهذا يعني أنه يريد مصلحة لنفسه. هاجس أساسي أن يذكر اسمنا دائماً على مذبح الرب وليس مرة في السنة. الالتفاف إذاً لكي نكون جماعة واحدة بحيث نقضي على بذور التفرقة. عندما نرى محاولات للتفرقة في كنيسة أو جماعة يجب أن نذهب بروح اللطف لكي نعيد هؤلاء إلى الحظيرة وهكذا لا تكون الكنيسة انتماء كلامياً فقط مسجلاً على تذكرة الهوية ولكنها انتماء فعلي.
الخلاصة
علينا أن نعي معموديتنا ومسؤوليتنا ونتناول سر الشكر ونختلط بالأعمال الخيرة التي تقام وندفع مطراننا وكاهننا وشعبنا جميعه لكي يحمل مسؤولياته على عاتقه, لكي يكون المسيح معروفاً في هذه الدنيا ولكي يصبح نوراً للعالم.
الخصائص الجوهريّة للكنيسة الأرثوذكسيّة
للأستاذ ب. براتسيوتس
هذا المقال مقتطف من بحث للأستاذ بنايوتي براتسيوتس من كلية أثينا اللاهوتية (1888- 1982) وقد تلاه في المؤتمر الأول لللاهوتيين الأرثوذكسيين الذي عقد في أثينا سنة 1936. وقد نقله إلى العربية الأستاذ جرمانوس لطفي ونشر في مجلة النور, العدد 6, سنة 1951.
إن الفكرة القائلة بأن الكنيسة الأرثوذكسية متمسكة بمبادئ الكنيسة القديمة الجامعة غير المتجزئة وتقواها, هي المبدأ المركزي في هذه الكنيسة. وهذه الفكرة المركزية في الأرثوذكسية تؤلف خاصتها الأساسية وهي من أهم خواصها. كما أنها في الوقت نفسه فيصل حقيقتها ومحكها, ما دامت هذه الكنيسة تعتقد بأنها هي استمرار الكنيسة الجامعة القديمة استمراراً حقيقياً شرعياً.
لذلك, إلى جانب محاولتنا التحري عن مبادئ الكنيسة الأرثوذكسية وخصائصها الرئيسية والتثبت منها, سنحاول كذلك أن نظهر اتفاقها مع مبادئ الكنيسة القديمة غير المتجزئة, الأساسية, وخصائصها الجوهرية ليتضح مدى صحة إدعاء كنيستنا بعلاقتها بتلك الكنيسة, وليبرهَن بالتالي عما إذا كان مضمونها يتفق واسمها (أرثوذكسية) {إن كلمة أرثوذكسية هي يونانية من أرثوس: مستقيم, وذوكصا: زعم أو رأي} أي مستقيمة الرأي.
الأرثوذكسية كنيسة التقليد
إن مبدأ الكنيسة الأرثوذكسية الأساسي الأول, هو تمسكها الدائم بالتقليد الشريف, الذي ورثته عن الكنيسة القديمة الجامعة. فكنيستنا هي في الواقع كنيسة التقليد. وهذا هو أحد ألقاب الشرف التي تملكها. غير أن تمسكها هذا أضحى السبب الأكبر في وصف بعض اللاهوتيين غير الأرثوذكسيين لها أنها (مومياء متحجرة).
ولما كان التقليد الشريف مصدراً للإيمان المسيحي, صار لزاماً أن يعتبر من خصائصه الجوهرية (عدم قابليته للتغيير والتبديل), شأنه شأن الكتاب المقدس, المصدر الثاني للإيمان. فإن عدم القابلية للتغيير من خصائصه الجوهرية أيضاً.
بيد أن التقليد الشريف لا يُعّد في كنيستنا قيمة جامدة, كما يزعم بعض اللاهوتيين غير الأرثوذكسيين, وإنما هو فيها قيمة ذات فعالية (ديناميّة).
والإيمان بالتقليد الشريف ليس معناه مجرد الإخلاص لعصور قديمة ولسلطة خارجية, وإنما هو ارتباط حي بملء اختبار الماضي الكنسي { راجع:
G. Florovsky: (Church of God), An Anglo-Russian Symposium, ed. By E. Mascall. – S. Boulgakoff, L'orthodoxie (1932), P.13) }.
إن التقليد الشريف هو في كنيستنا كالكتاب المقدس (كلام الله) وماء ينبع إلى حياة أبدية (يوحنا 14:4). هكذا كان في الكنيسة القديمة, وهكذا أظهرته كنيستنا الأرثوذكسية وأفصحت عنه بحيويتها الخصبة, التي لا تنفذ, طوال أربعة قرون وهي ترزح في البلقان تحت نيران الاستعباد العثماني, وفي السنوات الأخيرة في ظل النظام البلشفي في روسيا.
وإذا كان في الأرثوذكسية بعض الجمود, فذلك يعود إلى عوامل تاريخية لا تمتّ إلى طبيعتها بسبب, ولا ترجع إلى تمسكها الحي بالتقليد الشريف. نعم إن كنيستنا ظلت جامدة نوعاً ما, ولكنها لم تمت ولم تتحجّر. وهي إلى الآن ما زالت حية ومحيية. وكيف لا تكون وهي التي أنتجت في عهود الأمن والسلم عدداً وافراً من اللاهوتيين الحكماء والمسيحيين الأتقياء, هذا إلى جانب تنشئتها لفريق كبير من الشهداء والمعترفين وغيرهم من القديسين ؟
ويحمل عادة بعض اللاهوتيين الأجانب على الأرثوذكسية لتمسكها بالتقليد ويغضّون أبصارهم عن هذه الحقيقة وهي أن التمسك بالتقليد مبدأ أساسي وخاصة جوهرية لكنيسة المسيح منذ تأسيسها. وعدا هذا فإن المعلوم أن المسيحية أخذت فكرة التقليد عن اليهودية, وأن الكنيسة ترتكز على التقليد. فالإنجيل سلمَّه الرب يسوع لرسله الأتقياء شفوياً, والرسل أكثر ما اعتمدوا عليه في تسليمهم الإنجيل لخلفائهم إنما كان بهذه الطريقة عينها (أنظر الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس لاقليمس أسقف روميه). ومن البشيرين الأربعة استند اثنان منهم إلى التقليد المباشر (النقل المباشر), أما الآخران فاستندا إلى التقليد بواسطة.
ويقول لوقا الإنجيلي في ديباجة الإنجيل الذي كتبه (إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا – كما سلمها إلينا – الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة..) (لوقا 1:1- 2). أما (تلمذة الأمم) التي تمت حسب وصية الرب (متى29:23) فقد حدثت على الأكثر بالكرازة الشفوية. ومن المعلوم أن الرسل كانوا يعلقون أهمية كبرى على التقليد. قال الرسول بولس مراراًَ ما يلي:
1- (فاثبتوا إذاً أيها الإخوة وتمسكوا بالتقاليد {وردت ترجمة كلمة Paradhosis في الترجمة العربية البروتستانتية للكتاب المقدس في كثير من الآيات بكلمة (تعليم) وصحتها (التسليم أو النقل) وقد اصطنعنا كلمة (تقليد) لشيوع استعمالها في الكتب الدينية المسيحية باللغة العربية (حاشية للمترجم)} التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا) (تسالونيكي الثانية 15:2).
2- (وتحفظون التقاليد كما سلمتها إليكم) (كورنثوس الأولى 2:11).
3- (لأني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً) (كورنثوس الأولى23:11).
4- (إن كان أحد يبشركم بغير ما تسلَّمتم فليكن أناثيما) (غلاطية 9:1).
5- (وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلِّموا آخرين أيضاً) (تيموثاوس الثانية 2:2).
6- (وأما أنت فاثبت على ما تعلمت وأيقنت عارفاً ممن تعلمت) (تيموثاوس الثانية 4:3).
ومن المعلوم أن الكلام الإلهي المسلَّم شفوياً كان إلى جانب الكلام الإلهي المكتوب ينقل من جيل إلى جيل في الكنيسة, ويكرَّم إكرام الكلام الإلهي المكتوب. وهذا النقل أو التقليد الشريف المسمَّى تقليداً رسولياً يبرز من عهد ظهور البدع في الكنيسة وما بعده. فإن المحامين عن تعاليم الكنيسة الصحيحة كانوا يسندون دفاعهم إلى التقليد الشريف وإلى قانون الكتاب المقدس. ومن أجدر الناس ذكراً وأصلحهم مثلاً في المحافظة على التقليد الرسولي إيريناوس المعروف برجل التقليد الممتاز. وغير هذا فإن التقليد الشريف هو أهم الربط الوثيقة التي تربط الكنيسة المجنَّدة المجاهدة بالكنيسة الظافرة بصورة دائمة وبدون انقطاع.
وللكنيسة الأرثوذكسية مبدأ أساسي آخر, من الناحية الشكلية, هو تلازم السلطة والحرية, تلازماً متناغماً, متوازناً, كما كان في الكنيسة القديمة.
الأرثوذكسية كنيسة التجسد والتأليه
أما من جهة (المضمون) فيمكن اعتبار الإلحاح في التنبيه إلى تجسد كلمة الله, وبنوع خاص, ألوهية المسيح, مبدءاً أساسياً للأرثوذكسية. ويناسب هذا التعليم تعليمها أيضاً عن (تأليه الإنسان) (Théosis) كخاصة رئيسية لكنيستنا. وقد أصبح تلازم هذين التعليمين عن تجسد الكلمة – ألوهية المسيح, وتأليه الإنسان, مألوفاً في الكنيسة الأرثوذكسية. من عهد أثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندرية وبتأثيره. وفي هذا ما يفسر, في نظرنا, اعتبار (فصح الرب) (عيد الأعياد وموسم المواسم, الذي به المسيح الإله نقلنا من الموت إلى الحياة, ومن الأرض إلى السماء) وبآلامه ألبس المائت جمال عدم الفساد {هذه العبارات مأخوذة من ترنيمة فصحية تقال في كنيستنا الأرثوذكسية في عيد الفصح المجيد}.
ولقد اعتبر البعض أن إلحاح كنيستنا الأرثوذكسية في إظهار عقيدة (التجسد) وألوهية المسيح, بنوع خاص, يشكل نقطة ضعف فيها. بيد أن الذين يعتبرون هذا نقصاً ينسون أن هذا النهج تعود نشأته رأساً إلى مسيحية القرون الأولى, وإلى الرسل أنفسهم, الذين كانوا يعبدون يسوع رباً وإلهاً.
ومن المعروف أيضاً أن الكنيسة القديمة الجامعة كلها – ليس في الشرق فقط – ومن عهد ظهور البدع الآريوسية, بنوع خاص, وما بعده, ازداد فيها الإلحاح في إظهار ألوهية الرب يسوع. على أن هذا ليس معناه تغاضياً من جانب الكنيسة الأرثوذكسية في تقدير الناحية الإنسانية في شخصية يسوع المسيح.
ومن الحق أن يقال, إن إلحاح كنيستنا في إبراز تعليمها عن عقيدة (تأليه الإنسان) بواسطة كلمة الله المتجسد, إلى جانب إيمانها بألوهية السيد المسيح والمرتبط به ارتباطاً وثيقاً, هو تراث ثمين ورثته عن الكنيسة القديمة الجامعة, على الأقل من إيريناوس الذي علَّم قائلاً: (إن الله الكلمة صار كما نحن ليجعلنا كما هو) (أنظر كتابه ضد الهرطقات, في المقدمة). وهذه الفكرة أيضاً كانت التعليم المحبوب لدى القديس أثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندرية. فقد قال: (إن الكلمة تأنس, لكي نؤلَّه نحن أيضاً) (أنظر كتابه في التجسد وكتابه ضد الآريوسيين). ونجد هذه الفكرة عينها يعيدها كثيرون من آباء الكنيسة, نذكر منهم غريغوريوس اللاهوتي, وغريغوريوس النيصصي, ويوحنا الدمشقي, ونقولاوس ميثونيس. وقد وردت أيضاً في ترانيم مختلفة في كنيستنا, وبرزت في اللاهوت الأرثوذكسي الحديث.
+ ادارة الموقع والجمعية تشكر قدس الاب الموقر الياس خوري لارساله هذه المادة لمنفعة المؤمن، فليباركه الرب بشفاعة والدة الاله.
|