عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

هل أعطى السيد المسيح

هل أعطى السيد المسيح لبطرس الرسول الرئاسة العامة والمُطلقة على باقي الرسل والكنيسة جمعاء ؟

الأب رومانوس حداد

بلا شك كانت مسألة مزاعم "باباوات روما" بالرئاسة الشاملة على الكنيسة بأجمعها عبر التاريخ إحدى أبرز وأهم أسباب انفصالهم عن الكنيسة الأرثوذكسية، رغم اعتراف الكنيسة الأرثوذكسية لأسقف روما (قبل الانشقاق عام 1054) بأوّلية شَرفيّة فخريّة كونه أسقف المدينة الأولى في الإمبراطورية الرومانية، وهذا الامتياز لم يمنحه أبداً حقّ الرئاسة الشاملة على باقي أساقفة البطريركيات الأخرى، ولا سُلطة مُطلقة في تعيينهم أواختيارهم أو التدخل في الاستقلالية الإدارية التي تتمتّع بها تلك البطريركيات.

لم تنطلق الكنيسة الأرثوذكسية في رفضها لانفراد أسقف روما بالسُلطة وبتلك الصفات الإدارية من رغبة في استقلاليّة لم تكن موجودة، بل كانت طوال الوقت - وما زالت - منطلقة من قلب تعاليم الكتاب المقدس والتقليد الشريف وتعاليم الآباء القديسين، والتي لا يوجد فيها ما يُثبت ما تدّعيه روما من حقوق بالسيادة المطلقة! ولهذا ستتمحور دراستنا حول النقاط التالية لتوضيح خلفيات الرفض الأرثوذكسي لأوّلية البابا المزعومة وسُلطته المُطلقة الشاملة، ورئاسته على الكنيسة الجامعة:

1- مكانة القديس بطرس الرسول في عهد الرسل والكنيسة الناشئة:

لدى مراجعتنا للكتاب المقدس لا نرى ما يدلّ على سُلطة بطرس على باقي أخوته الرسل، بل نرى كل شيء يدلّ على أن الرسل جميعهم كانت لهم السويّة ذاتها، والتعليم الإلهي ينطوي على الإتضاع التامّ البعيد عن كل رغبة في المجد والزعامة "من أراد أن يكون فيكُم عظيماً فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً " ( متى 20: 26 ). ومع ذلك فالكنيسة أبداً لا تُنكر مكانة بطرس العظيمة بين المؤمنين ( أعمال 8: 14 ) والتي اكتسبها بسبب جهاده وشجاعته وغيرته التي أظهرها في غير موقف، وقد حصل كلٌّ من الرسولين بولس ويعقوب على المكانة ذاتها لنفس الأسباب. وأما الدرجات الكهنوتية وتراتبيتها المعروفة فقد نشأت لاحقاً من أجل حفظ النظام وتجنُّب الخصومات.

2- عند القاء النظر على أعمال المجمع الرسولي في أورشليم حوالي عام 51 م المذكور في سفر اعمال الرسل ( فصل 15 )، نرى بوضوح انه لمّا تمّ طرح قضية كنسيّة هامة (قضية التهوُّد وممارسة شعائر اليهودية) فإنها طُرحت أمام المجمع ككلّ ولم تُرفع القضية إلى بطرس لوحده، وهذا المجمع حضره الرسل والمشايخ في أورشليم وبينهم بولس وبرنابا وآخرون، وحسب الوقائع لم يترأس بطرس أعمال المجمع رغم حضوره، بل ترأسه القديس يعقوب الرسول أسقف مدينة أورشليم، وهو نفسه الذي تكلّم في نهاية المباحثات بسُلطان الحُكم منادياً بطرس باسمه دون أي لقبٍ يُذكر يميّزه عنهم، ولمّا قال رأيه النهائي وافقه الجميع دون أي تعليق من بطرس الرسول نفسه (15: 6-22 ) ولم يقُل بطرس ليعقوب "لقد تعدّيت على سُلطاني وصلاحياتي التي منحني إياها المسيح وميّزني بها عنكم". فلو فهم الرسُل أن بطرس رئيسهم، فلماذا يرأس الرسول يعقوب هذا المجمع ويقضي فيه ويُعلن قراراته ؟!

3- الرسول بولس وبّخ الرسول بطرس بشدّة لأن الأخير كان يأكل ويشرب مع الأمميين ( الوثنيين المهتدين للمسيحية )، عندما انكفأ عنهم عند مجيء اليهود خوفاً منهم، وكانت مواجهة بولس له على حقّ لأنه كان ملوماً في تلك المُمالقة "ولكن لما أتى بطرس إلى أنطاكية قاومتُه مواجهةً لأنه كان ملوماً " ( غلاطية 2: 11 ).
فلو فهم بولس رسول الأمم أن بطرس هو رئيسة، كيف له أن يجرؤ على توبيخه ويتكلّم معه بهذا الأسلوب، وبولس نفسه هو الذي دعى الى الخضوع والاحترام للسادة والسُلطات؟!

4- يؤكّد لنا التقليد المقدس والمصادر المسيحية المبكّرة، أن يعقوب أخا الرب كان الأسقف الأول لمدينة أورشليم أم الكنائس، وأنه أُقيم من الرب يسوع نفسه أسقفاً لتلك الكنيسة. وكان دوره في المجمع المذكور شاهداً له على عظمة مكانته وسُلطانه، ورغم هذا لم يقُم عبر التاريخ لا يعقوب الرسول ولا من خَلَفهُ على كرسيّ المدينة المقدسة أورشليم، بالمطالبة بالأوّلية على الكنيسة الجامعة، أو وبالرئاسة الشاملة على سائر بطاركة الكنيسة ( بل تأتي أورشليم في آخر قائمة البطريركيات القديمة بعد روما والقسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية، اذ حصلت على تميُّزها كبطريركية مستقلّة إداريا ولها حدودها الجغرافية خلال المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونية عام 451). وما دام الرب نفسه قد اختار الرسول يعقوب لتلك المهمّة الأسقفية دون الثلاثة الآخرين المقرّبين منه، بطرس ويوحنا ويعقوب بن زبدى، فلماذا لم يختر بطرس نفسه لشغل هذا الموقع، في الوقت الذي فيه أورشليم تمثّل قلب المسيحية في العالم بأسره ؟!

5- يرى الآباء القديسون مثل القديس يوحنا الذهبي الفم، والقديس أفتيميوس الكبير، أن يعقوب أُختير لكرسي أورشليم لأن بطرس أُقيم من الرب مُعلّماً للمسكونة كلّها، ولكن لم يقل أياً منهم أنه اختير رئيساً للكنيسة جمعاء. كما أن لقب "معلّم المسكونة" لم يختصّ به بطرس وحده، بل أُطلق على آباءٍ كثيرين من بينهم يوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي، ناهيك أيضاً عن بولس الرسول الذي تصفه الليتورجيا الشرقية في طروباريته مع القديس بطرس بأنهما " متقدّمان في كراسي الرسُل ومعلّمان للمسكونة " ( طروبارية القديسين بطرس وبولس - 29 حزيران )، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على تساويهما في المنزلة في نظر الأرثوذكسية.

فمن الواضح بعد هذا كلّه أن تقدُّم بطرس على رفاقه ليس رئاسة ولا سيادة، بل هو تقدُّم تشريفي معنوي لبطرس الغيور المجاهد، شاركه في هذا التقدُّم المعنوي رسُلٌ آخرون كيوحنا وبولس. وكون هؤلاء الرسُل من كبار الرسل وهاماتهم، لا ينتقص أبداً من قدر الرسُل الآخرين في الكنيسة ولا ممّا كابدوه أيضاً في سبيل الانجيل، لا سيما وأن يوحنا يوضح في سفر الرؤيا أن المدينة السماوية أورشليم مُحصَّنة بأسماء رسُل المسيح الأثني عشر معاً "وسور المدينة كان له إثنا عشر أساساً وعليها أسماءُ رسُل الخروف الإثني عشر" ( رؤيا 21: 14 ). والمفهوم اللاتيني الغربي في دوائر الفاتيكان لطبيعة التقدُّم والسيادة، لا ينسجم مطلقاً مع التعليم الكتابي والآبائي الصريح والواضح في هذا الشأن " أما أنتم فلا تُدعوا سيّدي لأن معلّمكم واحد هو المسيح وأنتم جميعاً أخوة " ( متى 23: 8 ).

ماذا عن قول الرب لبطرس وحده " ارعَ خرافي " ؟

وهذه الآية غالباً ما يلجأ اليها الغربيون لمحاولة اثبات المزاعم بحقّ "خليفة القديس بطرس" في إدارة شؤون الكنيسة الجامعة، وفي شرعيّة الرئاسة على جميع الكنائس.

في قول الرب له المجد لبطرس ثلاثاً " ارعَ خرافي " ( يوحنا 21: 15 ) تأكيد على عودة بطرس للحظيرة الإلهية بعد ندمه الشديد على إنكاره لمعلمه وسيّده ثلاث مرات في ساعة الآلام، وعلى عودة استحقاقه لمرتبته الرسولية كأخٍ لباقي الرسل، ومساوٍ لهم وعاملٌ معهم في رعاية خراف المسيح. وقد قوّم بطرس سقوطه ونكرانه الثلاثيّ للمسيح عبر اعترافه الثلاثيّ بحبّ المسيح "نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعلَمُ أَنِي أُحبُّكَ"، وعبر جهاده النشيط الحارّ في سبيل الانجيل وباستشهاده المتواضع، وهذا ما أوضحه القديس كيرلس الاسكندري في تفسيره لهذه الآية حيث قال: "انه بإعتراف بطرس المُثّلث مُحيَت خطيّة الجحود الثلاثية، وبأقوال السيد لبطرس ارعَ غنمي ثلاث مرات قد عيّنه جديداً فى رتبته الرسولية التي قد أضاعها بجحوده ونكرانه". وهذا هو أيضاً رأي الآباء القديسين غريغوريوس الثاؤلوغوس (اللاهوتي) وأمبروسيوس أسقف ميلانو ويوحنا الذهبي الفم والمغبوط أوغسطينوس.

خاتمة:

بلا شك تبقى إذاً مسألة مزاعم البابوية وتقدّمها وسُلطتها الشاملة قضية تُعرقل مُعظم مساعي الوحدة المسيحية، والشكل الذي أعلنه المجمع الفاتيكاني الأول في القرن التاسع عشر لا يُمكن بأي شكل أن يكون موضوعاً للمفاوضة والمساومة. ولو أُريد لمساعي الوحدة أن تتقدّم في هذه المسألة، فلن يكون هناك أرقى من الصفة التي تمنحها الكنيسة الأرثوذكسية لأسقف روما بأنه " أوّل بين مُتساوين " اعترافاً من الكنيسة جمعاء بالدور الذي لعبته روما على مدى القرون الثمانية الأولى من تاريخ الكنيسة في الحفاظ على استقامة الإيمان وصونه نقياً من كل الشوائب والبدع والهرطقات، مع العِلم والتأكيد على أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تقبل ب "باباوات روما" الحاليين كأساقفة شرعيين لكنيسة روما أو أن لهم الصفة الرسولية. وبغضّ النظر عن ذلك، تجتهد اليوم لجان الحوار الكاثوليكي – الأرثوذكسي في دراسة وضع "أسقف روما" القانوني ومراجعة المواقف في ضوء الكتاب المقدس والتقليد الشريف وتعاليم الآباء القديسين، إلا أن الخطاب الفاتيكاني حتى اللحظة لم يتغيّر ولا يوجد بوادر واضحة تُشير إلى احتمال تغيره على المدى المنظور.

يتبع...

الأب رومانوس حداد

 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com