عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

الصيام قبل المناولة

الصيام قبل المناولة

ان الممارسة المتأصّلة والثابتة في تقليد الكنيسة الأرثوذكسية، هي أنّ مناولة المؤمنين للقرابين المقدسة يسبقُها صومٌ اعداديّ، فلكي يشترك المؤمن في جسد الرب ودمه المقدسين يجبُ عليه أن يكون مُستعداً الاستعداد الواجب واللائق بقدسيّة هذا السرّ الإلهي. القديس بولس الرسول يقول: "من أكل جسد الرب وشرب دمه بغير استحقاقٍ فهو مجرمٌ الى جسد الرب ودمه، فليختبر الانسانُ نفسه وهكذا فليأكل هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس..." (1كورنثوس 27:11).

في كل مناولة هناك مصالحةٌ مع الله من جهة الانسان، ومصالحةُ الانسان مع أخيه الانسان "اذا قدّمتَ قُربانك علي المذبح، وهناكَ تذكّرت أن لأخيكَ شيئاً عليك، أُترك قُربانك قدّام المذبح، واذهب أولًا اصطلح مع أخيك ثم عُد وقدّم قُربانك" (متى 5: 23، 24).
والاستعداد للمناولة مرتبطٌ بالتوبة عن الخطايا، اذ ما قيمةُ المصالحة مع الله بدون التوبة عن الخطايا !

ومنذُ القديم دخلت ممارسة الصيام قبل المناولة كشرطٍ أساسيّ وجوهريّ (باستثناء المرضى والأطفال)، حيثُ ينقطع المؤمنون طيلة اليوم السابق للمناولة عن تناول أي طعامٍ حيوانيّ (اللحوم والأسماك والحليب ومشتقاتهما) ويقتصرون على تناول الطعام النباتيّ الخالي من الزيت، كما هو مُتَّبعٌ في أديار الجبل المقدس آثوس. ومنذُ الساعة الثانية عشرة من منتصف الليلة السابقة للمناولة ينقطعون عن تناول أي طعامٍ أو شراب. والقديس يوحنا الذهبيّ الفم يقول في هذا الصدد، بأن المتقدّم من جسد الرب ينبغي أن يكون مُستعداً بالصلاة ومخافة الله والصيام.

انّ الكنيسة الأرثوذكسية ترى في الصيام وسيلة عظيمة للتنقية تسبق المناولة. فالكتاب المقدس يقول بأن الشياطين لا تخرج الا بالصلاة والصوم (مرقس9: 29). وبالطبع فانّ المرضى معفيين من الصيام، لا سيما اذا كانت حالتهم الصحيّة لا تسمح به، والاعفاء من الصوم يَبُتُّ فيه الأبُ الروحي حسبما يراه بحكمته وتمييزه. أما من يقول بالصوم ساعتين أو ثلاثة قبل موعد المناولة فهذا أمرٌ ترفضُه الكنيسة الأرثوذكسية، لأن المسألة ليست مجرّد قوانين جامدة أو تحديدات قديمة ينبغي احترامها ومراعاتها لمجرّد أنها قديمة ! انها في حقيقة الأمر سعيٌ الى طريقةٍ فُضلى من أجل نُموّ الاتحاد بالرب، فالصيام قبل المناولة يؤجّجُ فينا روحَ الشوق والانتظار، انتظار السيد الذي بذل ذاته عنّي، وأعطاني جسدهُ ودمهُ غذاءً لي، لكيما أتّحد معه وأتقدّس وأتألّه به. لكن هذا الصيام في ذاته مبتورٌ بدون الصلاة والتوبة الحارّة والاستعداد بالقراءات الروحية وتلاوة قانون وأفاشين المطالبسي. ويبقى السؤال لماذا نصوم قبل المناولة ؟

الصوم في الخبرة الروحية العميقة والوجدان الكنسيّ الأرثوذكسي المتأصّل في الكتاب المقدس وتقليد الرسُل وتعاليم الآباء القديسين، هو بمثابةِ صليبٍ تُصلبُ عليه الأهواء والشهوات الجسدانية، لكي تتهذَّب وتتنقّى وتسمو وتَتَروحن وتستعيد أصالتها التي كانت لها قبل السقوط، انه ذبيحةُ حُبٍ طوعيّة نقدّمها للسيد قبل أن يُقدّم لنا ذاته مأكلاً ومشرباً، انه يرسُمُ رمزياً تلك "السكين" التي رفعها إبراهيم أبو الآباء قديماً فوق جسدِ ابنه اسحق لمّا همَّ بذبحه وتقديمه قرباناً للرب، حيث تجلّت طاعة ابراهيم القصوى، الى أن ناداهُ ملاكُ الرب ألاّ يمسَّ ابنهُ بسوءٍ، حيثُ استُبدِلَ اسحق بالكبش العالق بقرنيه في الشُجيرة، فقدّمه قرباناً عوضاً عنه (تكوين 22). وهكذا على نحوٍ رمزيّ فانّ الصوم الانقطاعيّ يُشبهُ "السكين" الذي يُعلنُ أن حُكمَ الموت الذي كان ينبغي أن يتمّ فيّ قد رفعه عني "حملُ الله الرافع خطيئة العالم" اذ افتداني بموته المُحيي على الصليب، فينتهي الصوم بعد المناولة.

وكما أن الرب أمرَ العبرانيين قديماً أن يأكلوا خروفَ الفصح "مشويًا بالنار... على أعشابٍ مُرَّة تأكلونه" (خروج 12: 8، عدد 9: 11) ليتذكّروا المذلّة والعبودية المُرَّة التي كانوا يُقاسونها في مصر قبل أن يُحرّرهم من عبودية فرعون، فهكذا المؤمنون أيضاً يصومون (الصوم يترك طعماً مريراً في الفم) قبل أن يأكلوا "الحمل الإلهيّ المذبوح من أجل حياة العالم" مُستذكرين مرارةَ العبودية للخطيئة وفرعون العقليّ (ابليس) قبل أن يُعتقنا ويُحرّرنا المسيح من سُلطانه.

نحنُ نصوم لكي نشترك جسدياً أيضاً في انتظار السيد بشوقٍ ولهفةٍ وعطشٍ اليه، هذا ما يقوله القديس يوحنا كرونشتادت. نصوم لكي تكون باكورة الطعام الذي نأكله في يومنا الجديد هو جسد الرب ودمه الطاهرين، لا أيّ طعامٍ أرضيّ بائد، انها الأولوية "للمنّ الإلهي"، خبزِ الحياة الحقيقي، الخبز الباقي للحياة الأبدية. نصوم لكي يصغُر فينا الانسان التُرابيّ العتيق، أمام عظمة وصلابة الانسان الروحيّ (الأب ليف جيله). ان صوم المؤمن قبل مناولته القُدُسات الإلهية يجعلنا نختبر في عُمقِ كياننا الإنساني ما قاله النبيّ السابق المجيد يوحنا المعمدان عن السيد المسيح "له ينبغي أن يكبُر ولي أن أنقُص" (يوحنا 3: 13).

ليس من المُستحبّ أبداً أن يأخذ الكاهن في سؤال كل مؤمن متقدّم الى المناولة ان كانَ مُستعداً وصائماً أم لا، كما أنه من الخطر والتقهقر الروحيين أن يندفع المؤمنون الى المناولة بهذا الاستخفاف وهذه اللامبالاة، ودون مراعاة التهيئة والحرص الواجب، ولكن ينبغي لنا كأرثوذكسيين أن يكون هذا الصوم الاستعداديّ من البديهيات الراسخة عندنا في الممارسة الكنسيّة، وفي وجدان كل المتقدّمين الى المناولة الالهية، دونما الحاجة الى أن يأتي الكاهن على تفحُّصها والسؤال عنها في كلّ مرّة ! انهُ مثل ذلك الانسان الذي تلقّى دعوةً الى حضور عُرسِ ابن الملك، فهل من داعٍ لمن يُذكّرهُ ويقول له "هل لبست أجمل الثياب التي عندك"؟!

هذا هو "عشاءُ عُرسُ الحَمَل" (رؤيا 19: 7) الذي دُعينا الى فرح حضوره والاشتراك في التناول من وليمته السماوية المقدسة، فهلاّ ذهبنا اليه وعلينا "رداءَ العُرس" أم اننا سنوجدُ بغيرِ هذه الحُلَّة فنُلقى عُراةً من النعمة خارجَ الخِدر الإلهيّ ؟!

الأب رومانوس حداد

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com