عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

ظارة التقمُّص

ظارة التقمُّص ... في ضوء التاريخ والعِلم والعقيدة الأرثوذكسية

الأب رومانوس حداد

(المقال الأول)

تعريف:

التقمص Reincarnation أو تناسُخ الأرواح Transmigration يعني انتقال الروح الانسانية من جسد انسان ميت الى جسد انسانٍ آخر حديث الولادة، ويدعى أيضاً Rebirth أي "أعادة الولادة" أو "العودة للتجسُّد".

يُشتق مصطلح التقمّص في اللغة العربية من "القميص"، فتقمّص تعني لبس القميص، وتقمّص شخصية غيره أي قلّده وحاكاه في سلوكه وهيئته، وقميص الروح هو الجسد، لذلك فهو يعني عودة المبدأ الروحي للانسان (الروح) الى غلافٍ لحميّ جديد (جسد) في بيئة جديدة، واطارٍ مجتمعيّ جديد، وبناءً على هذا التعريف فان الجسد في عملية التقمّص ما هو الا مجرّد "قميص" لحميّ تخلعه الروح الإنسانية عنها في لحظة الموت، لتعود وترتدي مرة أخرى قميصاً لحمياً جديداً، أي انها تدخل في جسدٍ جديد، لتعيش في انسانٍ آخر حياة أخرى تختلف ظروفها وبيئتها عن الحياة السابقة.

لمحة تاريخية عن فكرة التقمص:

الاعتقاد بالتقمص قديم جداً وقد تطوّرَ عبر تاريخ المجتمعات التي آمنت به بشكلٍ ملحوظ. فنجده مثلاً في الفكر الاغريقي القديم، حيث الفكرة الأساسية كانت تطهير النفس من خلال عدّة ولادات الى أن تتحرّر النفس الصالحة وتعود الى طبيعتها الالهية. أما في الفكر اليوناني، فالمدرسة الفيثاغورية تعتبر أن وجود النفس في الجسد هو عقابٌ لها ان لم تكن صالحة، ويُمكن للآلهة أن تعيدها الى جسدٍ آخر. و نجد الفكرة ذاتها عند أفلاطون الذي يعتبر أن الروح غير الصالحة تنتقل بواسطة "ولادة جديدة" الى جسد حيوان كعقابٍ لها. لكنّ فكرة التقمّص حاضرة أيضاً في ديانات الشرق الأدنى القديمة كالهندوسية والبوذية والسيخية والطّاوية.

ويقال أن المؤرخ اليوناني هيرودوتوس ( 425-484 ق.م) أكّد على نشوء هذا المعتقد لدى قدماء المصريين، وهناك من يقول أن التقمّص نشأ في الهند في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وقد عرفه الهنود وشكل عقيدة أساسية في الديانة الهندوسية، ومن الهند انتقل الاعتقاد بالتقمُّص الى بلاد فارس والعراق ومصر واليونان عن طريق الرحلات التجارية، التي كانت بطبيعة الحال تحمل معها تلاقحاً دينياً وثقافياً بين الشعوب التي تتعامل مع بعضها البعض بالتجارة. وما زال التقمص حتى يومنا هذا يُشكل جُزءاً هاماً وركناً أساسياً في مذاهب الشيعة الاثني عشرية والنُصيرية وطائفة الموحّدين (الدروز) وغيرهم. وقد لاقى الايمان بالفكرة قبولاً لدى بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء في العصر الحديث أمثال: أرتور شوبنهاور و كورت غوديل و فريدريش نيتشه و إدغار آلان و جبران خليل جبران وغيرهم...

فلسفة التقمص:

تقوم فكرة التقمص لدى من يعتقدون به، على مبدأ أن الروح البشرية ملطّخة بأدران الشرور، وأنه يجب على هذه الروح لكي تتخلّص من تأثير الوسط المادي الشرير، عليها أن تمرّ عبر سلسلة من التجسُّدات المتوالية، وتعيش حيوات (جمع حياة) متعددة وبظروفٍ مختلفة، الى أن تصل الى الدرجات العليا من الفضيلة، وتبلغ الروح بعد سلسلة هذه التجسُّدات المتعاقبة الى حالة تُدعى "النيرفانا" وهي حالة الراحة والسكون من التقمُّص، اذ تنال الصفاء الكلّي الذي من خلاله تتحد بالكائن الأعلى. وبذلك ومن خلال العودة للتجسُّد في كل مرة، تحصل الروح على فرصة جديدة في المستقبل لكي تتقدّم وترتقي في صعودها نحو السُموّ والكمال.

كما ويعتمد مذهب التقمص في الديانات البدائية على عقيدة تدعى "الكارما" أي (الجزاء) التي هي مبدأ التكفير عن الخطايا، أي أن الانسان على هذه الأرض ينال ثواب أعماله الصالحة أو عقوبة أعماله الشريرة. فالشخص الذي قام بفعل خطايا في حياةٍ سابقة، يُمكنه أن يُعاقَب عليها أو يكفّر عنها في حياة أخرى جديدة من خلال عودة هذه الروح لتعيش في جسد انسان آخر! حيث تتجسّد الروح التي أتت بأعمالٍ صالحة في حياتها الجديدة، في طبقةٍ أرقى وأفضل، وفي انسانٍ يكون أكثر فضلًا وخيراً وصلاحاً، والانسان الذي أتى بأعمال سيئة، يُمكن لروحه أن تتجسّد في حياةٍ جديدة تنال فيها السوء والبؤس والشقاء، وقد تتجسّد في حيوان أو حتى حشرة..! وهذا ما يُفسِّر لنا لماذا الكثير من الهنود المتدينين يحرصون على عدم إيذاء أو قتل الأبقار أو غيرها، بسبب اعتقادهم بامكانية وجود روح انسانية فيها تقوم بالتكفير عن ذنوبها السالفة. (تؤمن طائفة الموحّدين الدروز أن التقمُّص لا يمكنه أن يتمّ الّا في اطار الجنس البشري، أي انتقال الروح من انسان الى انسان فقط).
ورأى الهندوس وغيرهم من أتباع هذا المذهب، أن الروح اذا سلكت في الطريق الصالح، يؤدي بها الى تجسُّد أفضل في حياةٍ أرقى وأكمل، وأن الروح تتخلّص من توالي التجسُّدات (دورات التقمُّص) اذا مارست النُسك والزهد والتعفُّف والبعد عن كثافة الحياة الجسدية المادية، فتصبح روحاً خالصة لا تتأثر بالعالم ومغرياته، وتنطلق الى الاتحاد ب "براهما" وهو الاله الذي يعبده الهندوس ويدعونه الكيان الكلّي او الملأ الأعلى.

عندما انتقلت فكرة التقمُّص الى الفيلسوف أفلوطين المصري، وهو مؤسس الافلاطونية الحديثة، قال : انسانٌ خلال حياته قام بقتل أمه، فيُعاد تجسّده بعد موته في جسد انثى تصبح أُمّاً يقتلها ابنها... أي أنه يموت بنفس الطريقة التي أمات بها أمه في حياته السابقة، وينال ذات العقوبة التي أوقعها على غيره...
أو أن انساناً كان خلال مدة حياته ظالماً للاخرين وقاسياً عليهم، يعود بعد موته للتجسُّد من جديد في انسان يقع عليه الظلم والقسوة من غيره. وهكذا فان الظلم الذي أوقعه على الاخرين في حياته السابقة يناله هو ويعاني منه...الخ. وأمثال هذه الأفكار كانت تنتشر وتنتقل من بيئة الى أخرى بتأثير الهجرات الجماعية أو تجاور الشعوب لبعضها البعض، مما كان ينقل شيئاً من ثقافات هذه الشعوب الى بعضها البعض ويجعلهم يتأثرون بها. وهذا يجعلنا نفهم المنطلق والخلفية لمعنى سؤال التلاميذ للسيد المسيح لما رأوا الرجل الأعمى منذ مولده، حيث قالوا له : "يا رب، من أخطأ أهذا أم أبواهُ حتى وُلدَ أعـمى؟" (يوحنا 2:9). اذ يعكس هذا السؤال تأثُّراً ببعض الأفكار السائدة عمّا اذا كان هذا الرجل المولود أعمى قد سقط في خطيئةٍ ما في حياةٍ سابقة فولد من بطن أمه أعمى عقاباً له. حيث نعلم أن اليونانيين القدماء الذين اعتقدوا بالتقمُّص كانت لهم عشرة مدن (الذيكابوليس) وُجدت أكثرها قريبة من المناطق التي عاش فيها اليهود في الجليل واليهودية.

الأب رومانوس حداد

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com