عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

نبؤة

مارتن لوثر: بين الحقيقة والمحبّة

(بقلم الأب د. بيتر مدروس)

احتفل العالم اللّوثريّ بمرور خمسمئة سنة على احتجاج لوثر على الكنيسة الكاثوليكيّة. ولأوّل مرّة في التّاريخ شاركهم الكاثوليك إحياء هذه الذّكرى، لا موافقة منهم على تغييرات مارتن لوثر في العقيدة ورفضه للتّقليد الشّريف وللتّعليم البطرسيّ، ولا استحسانًا من الكاثوليك لتقسيم لوثر الكنيسة وإنتاج أفكاره لمئات الطّوائف، بل تأييدًا لاعتراضه على التّجاوزات في تصرّفات بشريّة، هي في الواقع موجودة عند كلّ أمّة وملّة بما أنّنا بشر لا ملائكة. وانتقد نيافة الكردينال "جرهارد لودفيغ مولّر" قومًا من الكاثوليك، على رأسهم المطران الإيطاليّ "جالانتينو"، لسعيهم إلى "العلاقات الطّيّبة ولكن على حساب الحقيقة" وبتزييف للتّاريخ. واستنتج منطقيًّا الكردينال "مولّر" ما ردّده أيضًا المطران الرّوسيّ الأرثوذكسيّ "هيلاريون" من بطريركيّة موسكو: "لا سبب للابتهاج في ذكرى احتجاج لوثر، لأنّه أدّى إلى انقسام في الكنيسة وشرخ كبيرين مخالفَين لإرادة الله" فأتى نشاطه "مناهضًا لعمل روح القدس مبدأ الوحدة"، بخلاف ما تمنّاه بشكل غير واقعيّ مؤتمر تمّ عقده في جامعة اللاّتران في روما. وهكذا، يجب أن يعود المسيحيّ دومًا إلى التّوفيق بين الحقّ والودّ، بما أنّ الله هو الحقّ وهو تعالى بنفس الوقت "محبّة"."عاملين للحقّ بالمحبّة" (غلاطية 4 : 15)، "والمحبّة لا تفرح بالظُّلم، بل تفرح بالحقّ" (عن قورنثوس الأولى 13: 6).

 

من كان مارتن لوثر فعلاً؟

نشرت صحيفة "القدس" الغرّاء تقريرًا عن هذه الشّخصيّة الّتي لا يُعرَف عنها الشّيء الكثير. أصلاً كان هذا الرّجُل الألمانيّ، من مواليد أيسلدن، محاميًّا، ما حلم قَطّ بالرّهبنة ولا بالكهنوت. وفي حين تنسب بعض المصادر "الأسطوريّة" دخوله الدّير إلى الخوف من صاعقة نزلت في الثّاني من تمّوز يوليو سنة 1505، أثبت المؤرّخ الألمانيّ البروتستنتيّ "ديتريش إيميه"، مستندًا إلى مؤرّخين بروتستنتيّين قدامى، منهم ماثازيوس وميلانكتون وزاينكر، أنّ لوثر دخل الدّير هربًا من العدالة، مستفيدًا من حصانة الأديرة حينها. وبالفعل، ما عومل كراهب بل كمتطوّع لمدّة ستّة أشهر. وما لبث أن شعر بعدم مقدرته على الاستمرار في الحياة الرّهبانيّة والكهنوتيّة، الّتي ما دُعي إليها أصلاً. ورأى لاحقًا في ما سُمّي خطأً بالعربيّة "صكوك الغفران" ذريعة للتّمرّد. ولكن إذا كان الحبر الأعظم في كنيستي، أو بطريركي (كما هي الحال في إحدى كنائس القدس ، على ما يبدو) أو مطراني يبيع أديرة أو أوقافًا، فهل هذا سبب لأخرج أنا من الدّير وأتزوّج نساء منهنّ  راهبة (أي الرّابعة وهي كترينا فون بورا)؟

معظم المفاهيم والمفردات عن احتجاج لوثر مغلوط خاطىء بحاجة إلى "إصلاح"، ولكن هيهات!

هنا أيضًا، مع الأسف، الخطأ الشّائع غلب الصّحيح المهجور أو المخفيّ. وهنا لا يُلقي المرء اللّوم على غير المسيحيّين وغير الكاثوليك، بل علينا نحن الكاثوليك النّاطقين بالضّاد, حركة لوثر لا يجدر أن تُدعى "إصلاحًا" لأنّ اللفظة اللاتينيّة والألمانيّة هي "رفورماتسيو(ن)" أي "تغيير هيئة، تجديد شكل، إعادة شكل"، ومن المفروض ألاّ تمسّ الجوهر، بخلاف ما فعل لوثر، عن قصد أو غير قصد. وكلمة "غفران" مغلوطة لأنّها تُوهم بمفهوم "المغفرة". فالكلمة اللاتينيّة "إندلجنسيا" لفظة قانونيّة لا تعني مغفرة الخطايا بدفع الأموال، بل التّعويض عن الخطايا المغفورة بالتّوبة عن طريق سرّ الاعتراف. ومن المصادر الأوّليّة النّزيهة نكتشف أنّ السّويسريّ أولريش زوينغلي سبق مارتن لوثر على الاحتجاج (لعد فهمه الموضوع) وإنّ لوثر ما احتجّ حقًّا على "الغفرانات" (وهو ما يمكن أن نصفه بالزّكاة)إلاّ لأنّ الفاتيكان ما وكلها إلى رهبنته الأوغسطينيّة بل إلى الدّومنكان وبالذّات إلى اللاّهوتيّ يوهان تيتسل. وتعوّدت مصادر "شعبيّة" على إيراد نصف الحقيقة أي أنّ لوثر وضع 95 أطروحة في نقده للكنيسة. ولا أحد يورد أنّ اللاهوتيّ الكبير يوهان "إيك" ردّ على لوثر بمئة وخمس قضايا أحرجه فيها. كما حاورت الكنيسة لوثر وأرسل إليه الحبر الأعظم الكردينال "جايتانو" لتبادل الحديث ولكن الراهب مارتن لوثر رفض وتهرّب. ثُمّ دعا البابا الراهب لوثر إلى روما ثلاث مرّات، وكلّ مرّة كان يترك له مهلة ثلاثة أشهر. ورفض لوثر التّوجّه إلى روما.

العواقب الوخيمة من النّاحيّة الدّينيّة والأخلاقيّة والسياسيّة

لمّح نيافة الكردينال مولّر إلى المصائب الكبيرة الّتي أنتجها احتجاج لوثر، آخرها يورده التّقرير المشار إليه في صحيفة "القدس": أدّت حركة لوثر، في حين ولادة الدّول الوطنيّة، إلى إيجاد معسكرات شديدة الانقسام، مناهضة للبابا وللإمبراطور "القيصر" فنشأت حروب كثيرة منها "حرب الفلاّحين" (1524-1525) الّذين دعمهم لوثر في بادىء الأمر، ثمّ انقلب عليهم وحضّ على استئصالهم (طبعة يانسن، المجلّد الثّاني، ص 569، ثم ص560  570). وهكذا أمسى لوثر "أداة سياسيّة في الصّراعات وهو نفسه أصبح بعد ذلك سياسيًّا". أمّا احتجاجه على الكنيسة الكاثوليكيّة، على حسن نيّته، فقد قسم الملايين من المسيحيّين في أوروبا الغربيّة (ولاحقًا في جميع أنحاء العالم). وأتى المبدأ "الكتاب المقدّس وحده" إلى "التّفسير الحرّ للكتاب المقدّس"، بخلاف إعلان القدّيس بطرس في رسالته الثّانية (1: 20): "واعلموا قبل كلّ شيء أنّ ما من نبوّة في الكتاب تأتي بتفسير فرد من النّاس". فتكاثرت البدع والانشقاقات إلى درجة أنّ لوثر نفسه شكا منها (يانسن، المجلّد الثّاني، ص 412، والثّالث، ص 23).

واعترف لوثر بصدق: "مع هذا التّعليم (أي أن الإنسان يخلص بالإيمان من غير أعمال خير)، مع تقدّم الوقت، يتقدّم الناس (الّذين تبعوني) في الشّرّ، إنّ هذا عمل الشّيطان اللّعين ونشاطه! وهكذا نرى أنّ الشّعب أصبح الآن (أي بعد حركة لوثر نفسه) أكثر بخلاً وقساوة ورذيلة، وقد قلّ حياؤه وزاد لؤمه- وكلّ هذا اسوأ ممّا كان (الشّعب) عليه وهو قابع تحت لواء البابويّة" (فايمر، القسم 37، ص 203 يوم 7 اكتوبر تشريين الأوّل سنة 1533). وكتب أيضًا بأمانة: "(إنّ الّذين تبعوا آرائي) سبع مرّات أسوأ ممّا كانوا عليه عندما قبعوا في ولائهم للبابويّة" (فايمر، مجلّد 28، ص 763).

 

اكتشافات ذات شأن لأعظم دارسي لوثر في عصرنا: الأب تيوبالد بير (1902-2000)

كانت هنالك ألغاز في سيرة لوثر وطلاسم سبر أغوارها المؤرّخ الكاهن الألمانيّ الكاثوليكيّ تيبالد بير. معروف تعليق أحد اللاهوتيين المعاصرين للوثر: "هذيانات مانخيّة". والمانخيّة من "مانو" بدعة كانت تؤمن ، والعياذ بالله، بإلهين : إله للخير وإله للشّرّ. وتبيّن من ملحوظات كتبها مارتن لوثر بيده على كتب القديس أوغسطينوس وسواه أنّ لوثر كان يميل إلى "المانخيّة" نوعًا ما، وكأنّالخير والشّرّ، حاشى وكلاّ، في الذّات الإلهيّة. ولعلّ هذا هو السبب في رشق لوثر بالحرمان، لا قضيّة "الغفرانات"ألتي ألغت الكنيسة في شأنها أي تبرّع بالمال، في إحدى جلسات المجمع التريدنتيني.

 

خاتمة

لا تورد كتب "التّاريخ" والموسوعات إلاّ سلبيّات عن الكنيسة الكاثوليكيّة في القرن السّادس عشر. وهكذا تورد ربع الحقيقة أو خُمسها. فقد تألّق ذلك القرن نفسه بجحافل القدّيسين العظماء الذين أسسوا جمعيات ورهبنات، حتّى دُعي بصواب "قرن القدّيسين". وهؤلاء هم بعض القدّيسين المعاصرين للوثرالّذين تغفلهم كتب التّاريخ:  القدّيس الإيطاليّ فيليبُّس نيري (سنة 1515) أسس جمعيّة "المصلّى" ورهبنته سنة 1575، والقدّيسة تريزيا الأفيليّة (1515) جدّدت أديرة الكرمل "وراهبات المحابيس" منذ سنة 1562، القديس كارلو بوروميو ((1538) جدّد أبرشيّة ميلانو سنة 1565، القديس يوحنا الصليبيّ (1542) جدّد أديرة الكرمل للرّجال (1568)، مدام أكاري (1566) جدّدت كرمل باريس (1602)، القديس فرنسيس السّالسيّ (1567) جدّد أبرشيّة جنيف (1602)، القديس جان ده شنتال (1572) اسست رهبنة "الزّيارة" (1610)، بيير ده بوريل (1575) جدّد الكرمل (1604)، والقدّيس منصور ده باول (1581) أسّس جمعيّة مار منصور للإحسان ومجموعة "الأبناء الطّيبين" (1635)...

وفعلاً تمّ تقارب كبير بين الكنيسة الكاثوليكيّة وإخوتنا للّوثريّين وحديثًا مع المثوديست (بفضل البابا فرنسيس الأوّل) ولكن كيف يمكن التّقارب والاتّحاد مع آلاف الطّوائف الّتي انبثقت عن الاحتجاج اللّوثريّ؟

 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com