عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

أيقونة "العذراء المرضعة"

أيقونة "العذراء المرضعة"... هل تُقلّل من احترام والدة الاله وتنتقص من كرامتها ؟

اعداد: الأب رومانوس حداد

عندما تأتي الشُبهات ضد الكتاب المقدس والعقائد الأرثوذكسية من غير المسيحيين، فانك قد تعذُر جهلهم بالمسيحية، لذلك فمن واجبك الاستعداد الدائم لأن تردّ على شُبهاتهم المطروحة، عملاً بقول الرسول بولس: "مستعدين دائماً لمجاوبة من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم" (1بطرس15:3). وعندما تأتي الشبهات من المسيحيين الذين انشقوا عن الكنيسة الأرثوذكسية وانفصلوا عن الشركة معها وانقطعوا عن أصالة ومنابع تقليد الرسل والآباء القديسين، فانك قد تلتمس لهم العُذر أيضاً، وتسعى بمحبة للإجابة على تساؤلاتهم وإظهار نقاوة الأرثوذكسية، ولمعان جوهرها، وبريق تعاليمها، وأصالة رسوليّتها، وحفظها الكامل "لوديعة الايمان".
ولكن عندما تأتي تلك الشبهات من "الأرثوذكسيين" أنفسهم، ومن "رهبان" أو "كهنة" فعندئذٍ تقف مندهشاً ومتعجّباً، وفي الوقت عينه متألّماً في قلبك من الواقع الذي وصلنا اليه... ظهر ذلك للأسف الشديد في الأسابيع القليلة الماضية، من خلال قراءتي تعليقاً لأحد الرهبان "الأرثوذكس" المحترمين، على أيقونة "العذراء المرضعة"، حيث يعتبر أن وجود أيقونات تُظهر السيدة العذراء وهي تحمل السيد المسيح طفلاً على ذراعيها وتُرضعه من صدرها، هو تقليلٌ من شأن العذراء واحترامها، ومَسَّاً بكرامتها..!
فرغبتُ عبر هذا المقال المتواضع توضيح بعض النقاط الهامة حول هذه الأيقونة.

أيقونة "العذراء المرضعة" والردّ على الهرطقة الدوسيتيّة:
++++++++++++++++++++++++++++++++

ما هي هرطقة الدوسيتيّة - Docetism؟
الدوسيتية كما جاءَت في اليونانية "Doketai - δοκεται"، من التعبير "dokesis - δοκεσις" والفعل "δοκέω - dokeō" والذي يعني "يبدو - to seem"، "يظهر"، "يُرى"، وتعني الخَياليّة Phantomism، وهي هرطقة ظهرت في القرن الأول الميلادي، في عصر رسل المسيح وتلاميذه، وقد جاءت من خارج المسيحية، وبعيدًا عن الإعلان الإلهي، وخَلطَت بين الفكر الفلسفي اليوناني، الوثني، والمسيحية. وقد بَنَت أفكارها على أساس أن المادة شرّ، وعلى أساس التضادّ بين الروح وبين المادّة التي هي شر، في نظرها، ونادت بأن الخلاص يتمّ بالتحرّر من عبودية وقيود المادّة والعودة إلى الروح الخَالِص للروح السامي، وقالت أن الله، غير مرئي وغير معروف وسامي وبعيد جداً عن العالم، ولمّا جاء المسيح الإله إلى العالم من عند هذا الإله السامي ومنه، وباعتباره إلهٌ تامّ لم يأخذ جسداً حقيقياً من المادّة التي هي شرّ لكي لا يَفسُد كمال لاهوته، ولكنه جاء في شِبه جسد، أي أن جسده كان مجرّد شَبح أو خيال أو مجرّد مَظهَر للجسد، بدا في شِبه جسد، ظهر في شبه جسد،، ظهر كإنسان، بدا كإنسان، وبالتالي ظهر للناس وكأنّه يأكٌل ويشرب ويتعب وينام ويتألم ويموت، لأنّ الطبيعة الإلهية بعيدة عن هذه الصفات البشرية. وقالوا بأن جسده وآلامه كانا كأنهما حقيقيان ولكنهما في الواقع كانا مجرّد شبه. ولم يكُن الدوسيتيين (أو الظاهريين) مجرّد جماعة واحدة بل عدّة جماعات، فقال بعضهم:
1 -
أنّ الأيون Aeon، أي الإله، المسيح، جاء في شِبه جسد حقيقي (جسد خيالي).
2 -
وأنكر بعضهم اتخاذ أي جسد أو نوع من البشرية على الإطلاق. أي أن المسيح في نظرهم كان روحاً إلهياً وليس إنساناً فيزيقياً.
3 -
وقال غيرهم أنه اتخذ جسداً نفسياً Psychic، عقلياً، وليسَ مادياً.
4 -
وقال البعض أنه اتخذ جسداً نَجمياً Sidereal.
5 -
وقال آخرون أنه اتخذَ جسداً ولكنه لم يولد حقيقةً من امرأة.
وجميعهم لم يقبلوا فكرة أنه تألم ومات حقيقة، بل قالوا أنه بدا (ظهر) وكأنه يتألم وظهر في الجلجثة مصلوباً كمجرّد رؤيا.
وكان أول من استخدم تعبير الدوسيتية "Doketai - δοκεται" لوصف هؤلاء الهراطقة، هو سيرابيون أسقف إنطاكية (190 - 203م) في معرض حديثه عن إنجيل بطرس الأبوكريفي، المنحول والمزوّر، ويقول عنه وعنهم "لأننا حصلنا على هذا الإنجيل من أشخاصٍ درسوه دراسة وافيه قبلنا، أي من خلفاء أول من استعملوه الذين نُسمّيهم دوكِاتي "Doketai - δοκεται"، ( لأن معظم آرائهم تتصل بتعليم هذه العقيدة، فقد استطعنا قراءته ووجدنا فيه أشياء كثيرة تتفق مع تعاليم المخلّص الصحيحة، غير أنه أُضيف إلى تلك التعاليم إضافات أشرنا إليها عندكم".
كما أشار إليهم القديس أغناطيوس الإنطاكي (35 - 107)، وحذّر المؤمنين من أفكارهم الوثنية قائلاً: "إذا كان يسوع المسيح - كما زعم الملحدون الذين بلا إله - لم يتألم إلّا في الظاهر، وهم أنفسهم ليسوا سوى خيالات (بلا وجود حقيقي) فلماذا أنا مكبّل بالحديد"، "وهو إنما أحتمل الآلام لأجلنا لكي ننال الخلاص، تألم حقاً وقام حقاً، وآلامه لم تكن خيالًا، كما أدّعى بعض غير المؤمنين، الذين ليسوا سوى خيالات"، "لو أن ربنا صنع ما صنعه في الخيال لا غير لكانت قيودي أيضاً خيالاً".
كما ذكرهم أيضا القديس أكليمندس الإسكندري مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية سنة 216م وذكر مؤسّسهم، كجماعة، في القرن الثاني بالقول أن شخصاً معينًا هو جولياس كاسيانوس (Julias Cassianus) مؤسس الخيالية (الظاهرية)، ويصفهم العلامة هيبوليتوس (استشهد سنة 235م) باعتبارهم فرقة غنوصيّة. وقال القديس ايرونيموس (المتوفى سنة 420م) عن بداية ظهور فكرهم بأسلوبٍ مجازي أنه "بينما كان الرسُل أحياء وكان دم المسيح لا يزال ساخناً في اليهودية، قيلَ أن جسده مجرّد خيال".

ظهور أيقونة "العذراء المُرضِعة" في الفنّ المسيحيّ المُبكّر:
+++++++++++++++++++++++++++++++++

هذه الأيقونة هي تجسيدٌ ملموس ومرئيّ لصرخة المرأة التي امتدحت السيد المسيح ووالدته القديسة، فيما كان يعظ ويكرز بملكوت الله: "وفيما هو يتكلّمُ بهذا رَفعت امرأةٌ من الجَمعِ صوتها وقالت له: طوبى للبَطنِ الذي حَمَلكَ والثَديينِ اللّذينِ رَضِعتهما" (لوقا27:11).
وانطلاقاً من خلفيّة معرفتنا للبدعة الدوسيتيّة التي ظهرت في القرن الأول الميلادي، والتي قالت باتّخاذ المسيح لجسدٍ غير حقيقي بل "ظاهريّ" أو "وهميّ" أو خياليّ"... نشأ في القرون الأولى للمسيحية تصويرٌ أو رسومات تُظهر السيدة العذراء تحتضن المسيح طفلاً بين ذراعييها وتُرضعه من صدرها، كأسلوبٍ من الردّ على البدعة الدوسيتيّة، ووسيلة لدحض هذه الهرطقة وفكرها الغنوصيّ، مؤكّداً على حقيقة تجسّد المسيح واتّخاذه جسداً بشرياً حقيقياً كاملاً (وليس ظاهرياً أو وهمياً) وأنه ككلّ الأطفال احتاج للعناية ولأن يرضع وينام... حيث كان هذا النمط التصويريّ شائعاً كثيراً في المسيحية المُبكّرة، ويشهد على ذلك جِداريّة تعود الى القرن الثالث الميلادي في سِرداب بريسيلّا في روما، وهو يُصوّر العذراء تَحتضن الطفل يسوع وهو يرضع من ثديها، ويقف مقابلها أحد الأنبياء غير معروفه هويته بالضبط! ويعتقد البعض أنه قد يكون أشعيا النبي صاحب نبؤة حَبَل وولادة العذراء لعَمّانوئيل - أي الله معنا - (انظر اشعيا فصل 7).
(
ملاحظة: السراديب أو الدياميس، هي عبارة عن المقابر الرومانية التي كانت محفورة على شكل أنفاق وممرّات تحت المدن، وقد استخدمها الرومان لدفن الموتى، وفي القرون الثلاثة الأولى من المسيحية حيث كان المسيحييون مضطهدين من قبل الدولة الرومانية، كان يلجؤون اليها في الليل ليلتقوا مع بعضهم البعض في السرّ بعيداً عن عيون السُلطة الحاكمة، لاقامة اجتماعاتهم الدينية وسماع الوعظ والتعليم وإقامة القداس الالهي وتناول جسد الرب ودمه. ولا تزال بقايا هذه السراديب موجودة تحت مدن مثل روما والإسكندرية، وهي غنيّة بالأثار والرسومات على جدرانها والتي استخدمها المسيحيون الأوائل للتعبير عن ايمانهم وعقيدتهم مثل: الصليب، السمكة، الخبز، المرساة، سنابل القمح وعناقيد العنب، الراعي الصالح...الخ).

أيقونة "العذراء المرضعة" ردٌّ على هرطقة افتيشيس (الأوطاخية):
++++++++++++++++++++++++++++++++++++

في القرن الخامس الميلادي ظهرت البدعة الاوطاخية (نسبةً الى افتيشيس أو أوطيخا) التي جاءت لتحمل أفكاراً مشابهة للفكر الذي نادى بها الدوسيتيون (الظاهريون) في القرن الأول، حيث علّم أوطيخا وأتباعه عن تجسّد الكلمة، أن الناسوت ذابَ في اللاهوت كما تذوب قطرة الخلّ أو العسل في مياه البحر وتتلاشى فيه...، فلم يكن للمسيح بعد التجسّد الّا "طبيعة واحدة" هي الطبيعة الإلهية فقط، والتي ابتعلت الناسوت عند اتّحادها به! فعادت الأيقونوغرافيا البيزنطية (فنّ كتابة الأيقونات) لتعلب دورها من جديد في التأكيد على العقيدة الأرثوذكسية المستقيمة، وعلى حقيقة تجسّد الكلمة الأزلي (ابن الله)، وأنه اتّخذ طبيعة بشرية حقيقية كاملة واتحَدها بلاهوته، في أقنومٍ واحد، وطبيعتين كاملتين ومتميّزتين تحتفظ كلٌ منها بخواصها وأفعالها بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تشويش، في وحدة الأقنوم الإلهي (اقنوم الكلمة المتجسّد) كما أوضح تعليم المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونية عام 451م. ما يعني أن هذا النمط من الأيقونات يؤكد على حقيقة تجسّد الله الكلمة وولادته من البتول، وانه احتاج كانسانٍ حقّ لأن يرضع من ثديها وينام في حضنها كسائر الأطفال، وأن التجسّد ليس ظاهري أو وهمي أو خيالي كما ادّعى الهراطقة.

وهنالك جداريات وأيقونات للعذراء المرضعة في تراث الايقونوغرافي أديار قبطية وسريانية وحبشية، مما يدلّ على أصالة الموضوع التصويري لهذه الأيقونة في المسيحية الأولى، وذلك قبل مجمع خلقيدونية نفسه.
ومن الجدير بالذكر أن شريحة واسعة من الفلاحين وعامة الشعب كانوا يجهلون القراءة والكتابة، فكانت الأيقونات بما تتضمّنه وسيلة ضرورية لشرح العقيدة الأرثوذكسية وتَعلّمها وتثبيتها في قلب الشعب الأرثوذكسي عبر حاسّة النظر.

أيقونة "العذراء المرضعة" في الكنيسة الأرثوذكسية:
+++++++++++++++++++++++++++++

أيقونة "العذراء المرضعة" ( باليونانية: Παναγια Γαλακτοτροφουσα، Galaktotrophousa (وبالروسية: Mlekopitatelniza « Млекопитательница ) هي احدى أيقونات السيدة والدة الاله الأكثر شُهرةً وانتشاراً في العالم الأرثوذكسي، في اليونان وقبرص ورومانيا وجورجيا وصربيا، وهنالك كنائس قائمة على اسمها في ميغارا وليماسول ولارنكا وبافوس وفي ألبانيا، وتحظى باكرامٍ شعبيّ واسع ومميّز لدى الشعب الروسيّ على في كل أرجاء روسيا.
وهي من أهم الايقونات الموجودة في الجبل المقدس آثوس، في دير خيلانذاري الصربي، ويروي التقليد أنه تمّت كتابة هذه الأيقونة في دير القديس سابا في فلسطين ما بين القرنين السابع والثامن. وفي القرن الثالث عشر زارَ المطران سابا الصربي (وهو مؤسس دير الخيلانداري في جبل آثوس) لافرا القديس سابا في فلسطين، وهناك قدّم له آباء الدير هذه الأيقونة كهدية مع أيقونة العذراء ذات الأيدي الثلاث (المرتبطة بالقديس يوحنا الدمشقي وبأعجوبة شفاء يده المقطوعة) وحملهما معه، وفي القرن السادس عشر عند تأسيس دير الخيلانداري وضعتا فيه.
وتوجد نسخة من هذه الأيقونة في الاسقيط الروسي للنبي إيليا بالجبل المقدس، ومنقوش في أسفل الايقونة أنها نسخة عن تلك التي في دير الخيلانداري. ويقام لها في الدير المذكور عيدان خلال السنة، الأول في 12 كانون الثاني (يناير)، والثاني في 3 تموز (يوليو)، وقد وضعت لها خدمة ليتورجية خاصة وبراكليسي الخ.
وعُرفت أيقونة "العذراء المرضعة" بعجائبها الكثيرة، نذكر منها تلك التي جرت في نيقوسيا بقبرص خلال الاحتلال التركي للجزيرة عام 1974 حيث في احدى القرى المسمّاة palekythro عاش يونانيين وأتراك معاً، وفي القرية كنيسة تحوي أيقونة "العذراء المرضعة"، وكانت تلجأ اليها السيدات اللواتي فقدنَ حليبهنّ لارضاع الأطفال. ويُذكر أن معجزةً حصَلت مع سيدة تركية مسلمة جاءت الى الكنيسة تتوسل بدموع أمام أيقونة "العذراء المرضعة" أن تنقذ ابنها من الموت جوعاً (حيث لم تجد من ترضعه لها، وحيث لم يكن الحليب المُعلّب معروفاً) وقد استجابت العذراء طلبتها.
وتتضمّن صلوات الليتورجيا الأرثوذكسية إشارات عديدة الى موضوع تجسُّد ابن الله من البتول القديسة، تجسُّداً حقيقياً، وأن المغذّي كل الخلائق قد تغذّى كطفلٍ من ثدي العذراء كانسانٍ حقيقي وكامل:
"
أيتها البتولُ. كيفَ تُفيضينَ من ثدييكِ لبناً! وكيفَ غَذَّيتِ المُغذّي جميعَ البرايا ! هكذا شاء الذي أنبعَ الماءَ من الصخرة كما هو مكتوبٌ وأجرى جداولَ المياه للشعب العطشان" (الليتورجية البيزنطية - من خدمة جناز الراقدين).

"...وانت امطر للشعب في القفر منا، يغتذي لبنا من الثديين.." (من صلاة الساعة التاسعة - برامون الميلاد).

هل فعلاً هذه الأيقونة تقلّل من احترام العذراء وتمسّ بكرامتها؟
+++++++++++++++++++++++++++++++++++

انّ من ينظر الى الأيقونات البيزنطية للعذراء المرضعة، يراها تعبّر عن الفكر اللاهوتي الأرثوذكسي الذي تتضمّنه وتريد ايصاله الى المؤمنين عن حقيقة تجسّد الكلمة، وذلك بأسلوب ورؤية وقورة هادئة تدعوك الى وقفةٍ من الايمان والخشوع أمامها، لا بأسلوبٍ مُنفّر يخدش الحياء البشري! 
يقول الرسول بولس: "انّ كل شيئٍ طاهرٌ للطاهرين، وأما للنَّجِسين وغير المؤمنين فليس شيئٌ طاهراً، بل قد تنجّس ذهنهم أيضاً وضميرهم" (تيطس15:1).
فعليه، وباعتقادي الشخصي أن الأمر لا يتعلّق بموضوع أيقونة "العذراء المرضعة" في التراث الأرثوذكسي، بقدر ما هو متعلّق بنظرة صاحب الشبهة والاعتراض وما يحويه من أفكار داخل عقله وقلبه! ألا يقول الرب: "سراجُ الجَسد العَين، فاذا كانت عينُكَ بسيطةً فجسدُكَ كلّه يكونُ نيّراً، واذا كانت شريرةً فجسدك يكون مظلماً" (لوقا34:11).

الأب رومانوس حداد

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com