عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

المحبّة والتواضُـع

المحبّة والتواضُـع

عظة في "أحد الفريسيّ والعشّار" (لوقا 18، 10- 14)

تريودي يمضي وتريودي يأتي، ونحن ماضون في مسيرتنا من أجل خلع الإنسان القديم وارتداء الإنسان الجديد. التريودي هو الفترة الطقسيّة من الصلوات والأصوام التي رتّبتها الكنيسة قبل الفصح. وفيها يُركِّز المسيحيّ انتباهه، ويضع كلّ قدراته من أجل المعركة التي سيخوضها في حلبة هذه المواسم المقدّسة ضد الإنسان العتيق، ليبني ذاته إلى ملء قامة المسيح. تمتاز هذه الفترة بفرادة صلواتها، وتكثيف الأصوام والعبادات، وانصراف المسيحيّ فيها أكثر إلى ممارسة الفضائل المسيحيّة، التي أهمّها الصلاة والصوم.

لذلك رتَّبت الكنيسة المقدّسة، في بداية هذه الفترة، أن نقرأ مثل الفريسيّ والعشّار، الذي يكلّمنا فيه الربّ يسوع عن العبادة الحقيقيّة وعن الفضائل المزيَّفة؛ عن الأصوام والتعشير؛ وعن سائر الفضائل التي تقابلها في زماننا وطقوسنا؛ وعن تجنُّب الخطر من قلْبِها إلى مُراءاة؛ وتحريف "العبادة” بتحويلِها إلى "عادة”. إنَّ أتعاب الفضائل خسارة كبيرة حين لا تقود إلى غايتها، والصوم الكبير هو رحلة الفصح إلى رؤية وجه يسوع القائم.
وفترة الصوم هي فترة عبادة بامتياز. لكنّ مثل الفريسيّ والعشار يضع فينا الرهبة. فهوذا العابد الصوّام يُدان وهاك العشار المرذول يُبرَّر. ما الذي كان عند العشار وغاب عند الفريسيّ، حتى خرج الأول مبرَّراً والثاني مُداناً؟

"المحبّة والتواضع”، بحسب تعبير القدّيس يوحنا السلميّ، هما أساسا كلّ الفضائل. لن يقوم أيّ صومٍ أو خدمةٍ، أو إحسانٍ، أو أيّة فضيلةٍ إلاّ عليهما، ودونهما تفسد أية فضيلة. كما في حالة الفريسي هنا؛ كثرت أتعابه ونقصت المحبة والتواضع فلم يتبرَّر في عينيّ الربّ.
يدور مثلُ الفريسيّ والعشّار حول العبادة، الصوم والصلاة، وحول البرّ والخطيئة. بكلمةٍ أخرى، إنّه يحدثنا عن التقوى. ما يبتغيه الربّ يسوع من عرض الإنسانَين اللذين صعدا إلى الهيكل ومن إظهار التناقض بينهما، لا بل من التأكيد على النتيجة غير المنتظرة وتناقض الظاهر مع الحقيقيّ، هو التالي: ليست كلّ تقوى مقبولة، فهناك تقوى ظاهريّة وهناك التقوى الحقيقيّة. كان الفريسيّ يبدو مبرَّراً لكنه خرج مُداناً. وكان العشّار يُعتَبر خاطئاً، لكنه ظهر مبرَّراً. لقد اختلفت مقاييس الظاهر عن معايير الله العميقة والدقيقة!

"المحبّة تبني والتواضع يحفظ”. هذا هو الزَوْجُ الجليل لمملكة الفضائل، هذا هو معيار صدق فضائلنا وصفائها. كيف يمكننا أن نفسِّر محبّة الفريسيّ حين تجتمع الإدانة بالإحسان؟ وفي الوقت ذاته كيف يحتقر الفريسيّ "هذا العشّار” ويصوم مرّتين في الأسبوع؟ إنَّ فضائل الفريسيّ كانت لإرضاء غروره، وصلاته كانت بخوراً لصنمه. لم يعبُر الفريسيّ من الفضائل إلى المسيح، بل عاد بها كلّها إلى ذاته. حين يحقّق الفريسيُّ الفضائلَ يفتخر ويشعر بالتبرير، وحين يفرض عليه دِينُه أثقالاً لا يقدر عليها يُرائي. هذا وَقَفَ في المعبد يتكلّم مع ذاته: "فقال في نفسه”.

وفقاً لمعيار المحبّة نكتشف حقيقة فضائلنا. مثلاً، هل نخرج من الصلاة "وقلوبنا ملتهبة فينا حين كان (الربّ) يخاطبنا” كتلميذَي عمواس؟ أم نشعر وكأنّنا انتهينا من أداء واجب؟ وحين نصوم، هل نصير أكثر شفقةً وشعوراً بالآخر والمحتاج؟ أم أنّنا ننهي واجب الصوم لنعوِّض بعدها في الأعياد؟ هل تَسْحَق الفضائلُ الجدارَ الفاصل بيننا وبين حضرة الربّ في حياتنا، أم حين نتمّم بعضها نشتري بها كتاب طلاق إلى حين، وإلى أن تحين مواسم تكفير أخرى؟ الفضائل بجملتها هي وسائل ووسائط نستخدمها لكي تبني فينا الإنسانَ الجديد مكان الإنسان العتيق. والإنسانُ الجديد هو بالتحدّيد الذي يعشق المسيح بدل كلّ عشقٍ آخر، فيحبّه في إخوته ويحبّ إخوته فيه.

أمَّا المعيار الثاني فهو التواضع. إنَّ التواضعَ وليد الحبّ الحقيقيّ. من يحبّ يتخشّع أمام الله ويتواضع أمام الإخوة. من منّا يحمل ما حمله بولس الرسول من حبٍّ؟ وهو القائل في نهاية المطاف: "أنا أخطأ الناس”! إنَّ الإنسحاق هو نهاية درب الحبّ الحقيقيّ. ماذا سأكتشف عندما ينكشف لي الربّ سوى شعور الانسحاق؟ الاستحقاق في المسيحيّة هو الإنسحاق وليس التبرير. من هو المستحق للكأس المقدّسة؟ لا أحد سوى المُنسَحِق! نحن بالنعمة مُبَرَّرون. والأمّ، على سبيل المثال، كلّما أحبَّت ابنها حقّاً كلّما شعرت بأنَّها مقصِّرة نحوه. من يحبّ ليتعالى كاذبٌ. قَدَرُ المحبّة هو التواضع. والمحبّة التي لا يحيطها التواضع هي رياءٌ فريسيّ.
ليس التواضع تنكُّراً لِما فينا من مواهب، أو لِما تمَّ بنا من إنجازات أو فضائل، بل على العكس إنّه تقدير لكلّ ذلك واعتراف بأنَّه عمل النعمة الإلهيّة فينا. "ليس لنا، ليس لنا يا ربّ، بل لك هو المجد”. من له التواضع يُعطى ويُزاد، ومن ليس له هذا التواضع فإنَّ ما عنده من فضائل يُنزع منه. لقد أساء صوم الفريسيّ إليه بالرغم من أتعابه، وذلك حين قاده إلى التعالي. الفضائل دون تواضع تعني خُلوّها من المحبّة، أي انقلابها إلى أتعاب وإلى أعمال رياء.

ما فائدة الصوم الكبير إن لم تزدَدْ المحبّة نحو الله والقريب؟ ما الفائدة من الصلوات إن لم تتتوّج بالخشوع؟ ما هي خلاصة الصوم إن لم نصل إلى العشرة مع الله والاقتراب منه، من وجهه القدّوس؟ ما أتعس الجهاد حين لا يقودنا إلى غايته. هذه المسيرة لا تؤول إلى نهايتها دون تواضع. لذلك يختم الربّ يسوع المثل بتلك العبارة المقدّسة:

مَنْ ارتفع (من تبرير الأصوام والفضائل) اتّضع، ومن اتَّضعَ (من انسحاق المحبّة) ارتفع.
آميــن.

+ المطران بولس اليازجي
متروبوليت حلب والاسكندرون وتوابعهما (أعاده الرب سالماً معافى)

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com