عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E التراث العربي المسيحي

الكنسيات بين الشرق والغرب

الكنسيات بين الشرق والغرب

خبرة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك

المطران لطفي لحّام (البطريرك غريغوريوس الثالث حاليًا)

 مقدمة

 من المفيد جدًّا أن نطرح على بساط البحث أهميّة الكنسيّات في حياة الكنيسة، لأننا نعيش في الكنيسة، وعلاقاتنا المتبادلة تتم فيها، ولأن مفهوم الكنيسة تميّز بأهميّة خاصة في تاريخ الكنائس المتعددة عمومًا، وفي علاقات الكنائس الحديثة خاصة.
 
أسس السيد المسيح نفسُه جماعة وسمّاها الكنيسة، وهي مبنيّة على إيمان بطرس والرسل الذين يشكلون معًا "الجماعة الرسوليّة". فوجهُ الكنيسة الأولى يرتسم في القدس، ولكن منذ البدء وُلدت كنائس محليّة، فشاول أتى إلى دمشق ليضطهد الكنيسة التي نشأت فيها، وفي أنطاكي’ دُعي المؤمنون مسيحيين لأول مرة، وكلتا الكنيستين كانتا وليدَتي كنيسة أورشليم، ثم كانت كنيسة روما، ومن بعدها رأت النور كنائس أوروبا الأولى!
 
توجّه القديس يوحنا الرسول، في "رؤياه"، إلى أساقفة الكنائس المحليّة بلقب جميل مسميًا كل واحد منهم "ملاك الكنيسة" (التي في أفسس...) (رؤيا2، 1...). وأسس الرسل كنائس محليّة عديدة، حتى إنّ سفر أعمال الرسل يخبرنا عن أول مجمع عقدته هذه الكنائس في أورشليم (أعمال الرسل 15، 5-35).
 
إن دلّ ذلك كله على شيء، فهو يدلّ على أهميّة الكنسيّات في موضوع الحركة المسكونيّة التي تجد نفسها اليوم في طريق مسدود، ولا يمكنها الخروج منه إلا إذ بنت عملها على كنسيّات واضحة. فدراسة الكنسيات بين الشرق والغرب تساعد كثيرًا في حلّ المعضلات المسكونيّة المستجدّة. وها نحن نقدم في هذه الدراسة وجهة النظر الشرقيّة وخبرة الكنيسة الملكيّة في هذا المجال.
 
ستشمل دراستنا ثلاثة أقسام:
1- 
المقاربة بين المفهوم الشرقي والغربي للكنسيّات.
2- 
خبرة الكنيسة الملكيّة في الكنسيّات.
3- 
مساهمة الكنيسة الملكيّة في الكنسيّات.
وسيكون كلامنا بنوع خاص على الكنيسة البيزنطيّة.


القسم الأول
المقاربة المختلفة في الكنسيّات بين الشرق والغرب

 نشأت الكنيسة الأولى في القدس، وسميت أم الكنائس كافة، كما حلا للقديس يوحنا الدمشقي أن يترنّم بها في أناشيد القيامة التي وضعها في مؤلفه "الأكتوئيخس" إذ يقول: "إفرحي يا صهيون المقدّسة، أم الكنائس، مسكن الله، لأنك أول من قبل غفران الخطايا بالقيامة".
 
التأمت المجامع المحليّة أولاً في الشرق، وقد دعا إليها الأساقفة بموجب قاعدة محليّة. ولم نعرف ما سُمي بالمجامع العامة والمسكونيّة إلا لاحقًا. كذلك تطوّر مفهوم الكنيسة المحليّة بسرعة في الشرق، ولاحقًا أخذت بعض الكنائس دورًا مركزيًّا فوُلدت البطريركيّات في القرن الرابع لتمثّل مركزيّة السلطة المحليّة لكونها تتمتّع بأهميّة أكبر بالنسبة إلى الكنائس الأخرى حولها، ولكن دون أن تنتقص من سلطة أسقف الكنيسة المحليّة. ولدت البطريركيّات إثر قرارات مجمعيّة: نيقية (325) والقسطنطينيّة (381) وخلقيدونية (451)، وكانت هذه القرارات أساس المقاربة الكنسية التي اختلفت بين الشرق والغرب. فالشرق توجه بوضوح نحو الكنيسة المحليّة، بينما رأت روما بإلحاح أن لها الدور الأول في قيادة الكنيسة، وهذا ما نلمسه في تاريخ المجامع العامة، وخاصة السبعة المسكونيّة الأولى منها التي عُقدت كلها في الشرق. وما النظام البطريركي إلا تأكيد لهذا الفرق بين الشرق والغرب الذي بقي عالقًا دون حل حتى الآن. ظهر إذًا هذا الاختلاف بالرؤيا في المجامع الأولى التي أقرّت البطريركيّات الشرقيّة: القسطنطينيّة والإسكندريّة وأنطاكيا وأورشليم، وظهرت معه رؤيتان متفارقتان: تطلّبات روما وموقف الشرق الحذر الذي رفض ممارسة أوليّة الكرسي البطريركي الروماني على الكراسي البطريركيّة الشرقيّة.
تعود جذور الخلاف في المفهوم الكنسي بين الشرق والغرب والمشادة المستمرّة بينهما إلى الألف الأول. فروما تريد أن تكون الكنيسة البطرسيّة الأولى، والقسطنطينيّة تعتبر نفسها روما الجديدة وتصرّ على امتيازاتها وأوليّتها الخاصة، بينما تعتبر روما هذه الأوليّات حصيلة السلطة المدنيّة. هذا ما نجده في المجادلة الكبرى حول موضوع القانون 28 من مجمع خلقيدونية والذي عبّر عنه بحيويّة كبرى البابا لاون الأول الكبير. ولكن من الصعب حسم الموضوع، فقد استفادت روما والقسطنطينيّة سوية من السلطة المدنيّة، ولم تستطع الكنيسة يومًا أن تتخلّص من تأثير هذه السلطة.
بقيت هذه المشادة دومًا حيّة بين الأحبار الرومانيين، من جهة، الذين كانوا يؤكّدون سلطتهم بتطلّباتهم وتدخلاتهم حيث يستطيعون، والشرقيين، من جهة أخرى، الذين كانوا يقاومون التطلّبات والاعتدادات الرومانيّة. ولا تزال هذه المشادة المرض العصبي بين الكنيستين. والمسألة الكبرى التي تطرح نفسها اليوم هي كيف يمكننا أن نردم هذه الهوّة بين المفهومين الشرقيّ والغربيّ للكنسيّات؟ عبثًا نعتقد أن المشكلة المسكونيّة مبنيّة على العقائد الكنسيّة لأن جوهر هذه العقائد موجود في قانون الإيمان المشترك الذي تعترف به الكنيستان. العقبة الكبرى في الحركة المسكونيّة هي الكنسيّات، أي العلاقات بين الكنائس.
عندما نتكلّم على المفهوم الشرقي للكنسيّات يجب أن نؤكّد على أهميّة "الاستقلاليّة" (الأتونوميا والأوتوكيفاليا) المبنيّة على السلطة البطريركيّة التي يتمتّع بها البطريرك في الشرق، كما يتمتّع بها كل أسقف في أبرشيّته، والتي كانت استقلاليّة واسعة تمتد إلى جميع قطاعات الحياة الكنسيّة. فالبطريرك كان يقوم بكل المهام في بطريركيّته، كان الأب والرئيس لأمته (لملته)، ولم يكن يشعر بضرورة العودة إلى روما أو إلى أي بطريرك آخر يتمتّع بسلطة أعلى منه.
في كنيسة الشرق، كان اللجوء إلى روما حالة نادرة وشاذة عن القاعدة. أما اليوم فإن قوانين الكنائس الشرقيّة الجديدة، النافذة المفعول منذ السنة 1991 والتي جاءت حصيلة العقليّة الرومانيّة، جعلت اللجوء المستمر إلى روما في دقائق الأمور للحصول على الموافقة السابقة أو اللاحقة من الدوائر الرومانيّة (الكوريّا). هذه الإجراءات غريبة تمامًا عن التقليد البطريركي الشرقي، فالشرق لم يثقل ضميره البتة بمثل هذه التحديات الدقيقة لصلاحياته البطريركيّة أو حتى الأسقفيّة. كان اللجوء مقتصرًا على الصعوبات الكبرى والأزمات في العلاقات الكنسيّة. ولم يكن مثل هذا اللجوء محصورًا بروما فقط، بل كانوا يلجأون أيضًا إلى الكراسي البطريركيّة أو المتروبوليتيّة الأخرى، بل إلى الكراسي المتنفّذة أحيانًا. وكانوا يتبادلون الرسائل حول المعضلات الناشبة ويتدارسون الحلول الممكنة، وهذا وحده كافٍ ليُظهر لنا تناقض القوانين الجديدة مع التقليد الشرقي.
اعتاد المؤرّخون الغربيّون أن يسجلوا كل لجوء إلى روما برهانًا على تبعيّة الشرق لكنيسة الغرب، ويستنتجون من ذلك أن الشرق لم يكن مستقلاً، وأن أوليّة روما واضحة في التاريخ. ولكن علينا أن نقول الحق، فأوليّة روما، التي هي حق إلهي يستند على كلمة السيّد المسيح للقديس بطرس، لا يمكننا أن نثبتها بالأحداث التاريخيّة، أي بتدخل روما في شؤون الكنائس الأخرى أو بلجوء هذه الأخيرة إليها، والتي بقيت نادرة ومجرّد تدبير على مر التاريخ. والتدبير مبدأ أساسي في الكنسيّات الشرقيّة وفي النظام البطريركي الشرقيّ. صحيح أن الأولية الرومانيّة مبنيّة على كلام الرب ومتأصّلة في ضمائر الأحبار الرومانيين، ولكن الشرق لم يفهمها يومًا أو يقبل بتوسيعها المطّرد كما هي في ذهن روما وممارساتها. يؤكّد باتيفول في كتابه المُحكم "كرسي بطرس" أن "علينا أن نقتنع أن الشرق كان دائمًا مستقلاً، وأراد دائمًا أن يطبّق قوانينه، ويحل مشاكله وحده".
يتأصّل إذًا الاختلاف بين الشرق والغرب في المقارنة بين المفاهيم الكنسيّة المختلفة، وخصوصًا في بداية الألف الأول ونهاية الألف الثاني حيث احتدم الخلاف وتعكّرت العلاقات وأفضت إلى الانشقاق المأساوي. وهذه الاختلافات لا تزال حتى اليوم العقبة الكبرى في طريق الوحدة. شعر الشرق، ولا يزال، أنه مستقل، وليس له أن يتلقّى قوانين جاهزة، ولم يقبل يومًا أن تكون سلطة كنيسته أو حقوقها "إنعامًا" من كنيسة أخرى! أما الغرب فلم يفهم ذلك أبدًا، بل أراد دومًا أن يشرّع للشرق ويحدّ من السلطة البطريركيّة ويمنح الإنعامات. انطلاقًا من هذه العقليّة، اعتبرت روما البطريركيّات الشرقيّة الكاثوليكيّة، مجرّد مستحدثات رومانيّة، وبالتالي لم تعد هذه الكنائس بالنسبة إليها الوارث الحقيقي للبطريركيّات القديمة، وهذا يناقض تطوّر تاريخ البطريركيّات، كما أوضحنا أعلاه. لم تعترف روما قط بوجود السلطة البطريركيّة وتطوّرها، لا بل عاكست دومًا وضعها موضع التنفيذ. هذا هو الفرق الكبير بين الشرق والغرب كما أكّد مرارًا المؤرّخ باتيفول الذي قدّم ثلاث ميزات

 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com