عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E اخبار مسيحية

20/7/2009
الاصدقاء _ المطران جورج خضر

الأصدقاء

بقلم المطران جورج خضر

 
 

لماذا اذا حجب الموت صديقاً يصبح اكثر حضوراً وأعظم فعلاً في النفس؟ لست أؤمن بالتفسير المألوف ان الغياب يمحو العيوب. قد لا تلحظ عيوباً في من احببت في هذه الدنيا او قصوراً او تقصيراً. ربما كانت الاثيرية التي ادركها اكثف وجوداً من هذا الجسد او ربما شدك الفقيد (وليس من فقدان) الى هذا الذي نسميه في المسيحية شركة القديسين اعني هذا الرباط العجيب الذي يجمعنا الى الذين ذهبوا الى وجه الله.

اذا كان هذا امرنا مع الذين ارتحلوا قد يكون هذا جوهر الصداقة التي هي الصورة التي يجب ان يكون عليها الناس جميعاً في ما بينهم. الصداقة طهارة اذ لا يغريك فيها الا بهاء الآخر، هذا الذي تتعمد فيه وتتقدس. واذا قارناها بالمشاعر الأخرى يبدو انها وحدها المنزهة أو هي المنزهة اطلاقاً. انك فيها تبيد محورية الأنا كلياً. عيناك الى الآخر ليعظم ويسمو. جل ما فيها من أخذ انك بارتفاع الآخر تتنقى. والنقي يتبصر بالنقي. انها مملكة القلب الذي لا تخامره خاطرة من الارض ومن منافعها ونفوذها واستكبارها. هي مملكة القلب التي لا تذلل فيها ولا مصانعة. وحدها الصداقة تعاش بتواضع ولا شأن لها في الظهور او السياسة. الصديق هو وحده الذي لا تتسلط عليه. محبته ممكنة مع الفقر، مع العراء الكامل. والفقر لا يمنعك من الانتباه الكامل للآخر. فان لم يكن عندك شيء من هذه الدنيا الا ان عندك الاستماع الى الصديق لتتغذى وتغذي وتخدم وتثقف. كل منا قادر على التثقيف بالحب.

واذا قرأت كتباً وتهذبت بها فتقرأها على الآخر وتتبادلان المعرفة وجهاً من وجوه الحقيقة اذ تريد الصديق ان يتحرر داخلياً كما تحررت انت او تريد انت ان تتوب كما تاب وان ترق كما رق اذ تسعى الى قطف التجليات التي وصل اليها حتى تقوى كما قوي وتشركا الآخرين بهذا الذي بان فيكما من خيرات السماء.

الصداقة هي هذا التبادل غير المشروط. فقد لا يكون دوماً الآخر على وتيرة العطاء التي تتحرك انت بها. فلا تكون، اذذاك، مثل الصبية الصغار معطياً مقابل ما تعطاه. ولكنك تقدم نفسك مجاناً لكي تثير المجانية فيه من جديد. تزور صديقك بعدما يكون الله قد زارك. وأنت لست محتكر الله. فالله ليس شيئاً تقتنيه. فعلى قدر ما تكشفه بالمحبة تقوى زيارته لك. هذا التبادل محوره الرب او هو مصدره. ولذلك كانت الصداقة دائماً ثلاثية. فوجهك لا يكون الى الآخر الا اذا كان قبل ذلك الى ما هو فوق. ولهذا يستحيل ان نحب ضد آخر. القلب غير الصافي لا يصادق. القلب لا يزامل. المهنة، السياسة تزاملان. السياسة فوق ذلك تتآمر، تتعصب، تنافس حتى التدمير لكونها تبتغي الوصول، الصداقة تصل بلا استراتيجية، بدفق المحبة التي لا تريد شيئا لنفسها.

الصداقة تبدع نفسها، تنمو بهذا الذي زرعها في النفس وتستمر بهذا الذي استلمت من فوق. اي شعور آخر لا يستمر بنفسه. فحبك للاوطان يبقى بقدر ما يعطيك الوطن. واذا ساءت الحالة فيه حتى تحس بأن الدولة التي تسوسه تؤذيك او تظلمك تقلق كثيرا حتى تغريك المهاجرة. بينك وبين البلد توع مما هو في كل ميثاق انك تعطي اذا اخذت ما خلا بعض المتصوفين في الوطنية الذين يؤثرون الالم على الهجرة.

كذلك يبدو لي ان الزواج نفسه قائم على هذه الميثاقية التي فيها منافع في الارض من مال واغراء. لذلك نرى النساء يتوجعن كثيرا من بخل ازواجهن. والرجال والنساء معا يتألمون اذا كانت الحميمية غير مراعاة او ان الاخلاص غير قائم بالقوة المبتغاة. الزواج شيء يختلف بطبيعته عن الصداقة ولا يشبهها وما اوحيت انه غير عظيم لو اتبعنا الهدى. الصداقة وحدها غير هشة.

مهما يكن من امر المقارنات فالصداقة ككل وضع شعوري تحتاج الى دوام القلب على توجهه. ذلك ان القلب متحير وقد يكفر بسبب من شكوك تعتريه. قد يضع الصداقة على المحك. ولذلك لامفر من تغذيتها دائما. قد تكون متأصلة بحيث لا تحتاج الى التلاقي دائما. غير ان رؤية الاخر تبيد الشك اذا ما حل او تزيل التواني. الصداقة في حاجة الى ان تتغذى من نفسها بالرؤية وتبادل الفكر عند اهل الفكر وفي حاجة، بخاصة، الى تقديم الخدمة والافتقاد عند مرض الآخر او حزنه اوعزلته اوانعزاله. هي حركية لئلا نفقد بركاتها وزخمها.

ان طهارة الصداقة لا تجعلها انحيازا ولا ظلما. فالطهارة والحق يتلاثمان ويظل الصديق عادلا. فقد يخطئ صديقه ويبقى القول العربي: "صديقك من صدقك لا من صدَّقك". وتحتمل اللوم والتصويب والتكاذب نقيضها. فيكاد الصديق يكون ابا روحيا والمرشد يعرض نفسه لترك الاقربين. ان كتلة الاصدقاء ليست عصابة. لا تناصر بين الاصدقاء على طريقة التناصر العشائري.

هذه المودات العظيمة تقتضي حراسة وحذرا من النميمة التي تحاول الايقاع بين الاحبة. ولذلك قيل: "النمام يفرق الاصدقاء" (امثال :16 28).والنميمة قد تولد الشك في الآخر. ولذلك لا بد من المكاشفة خوفا من الحزن والتباعد حتى الغل. فبسبب الخطر المحدق بالوحدة يجب ان نختار الذين نحبهم حبا خاصا. من هنا احتسب انه علينا ان نبطئ في اختيار المقربين. فقد نعجب بواحد لفطنته وعلمه او ما يبدو كرماً له. هذا لا يكفي لندخله الى ملكوتنا الداخلي. الحكمة ضرورية للانتقاء. فإن لم يثبت تواضعه فلا نفع فيه.

ان لم تجد في احد الناس هذه الفضائل سوف تفنى صداقتك. ومن اخطر ما يضع لها حداً ان انساناً كهذا تتأكله الغيرة فيريد ان يحتكرك ويمنع عنك صداقات اخرى. ان يستأثر شخص بآخر لا يؤهله لعيش المودات.

يبقى سؤال وجيه وهو امكان الصداقة بين رجل وامرأة قبل ان يبلغا الشيخوخة. الخطر في علاقة كهذه يكمن في المكاشفة والشفافية اللتين ترافقان الاصحاب. وهذا من شأنه ان يقود الى الحب والى ما يصحبه من اضطراب وتركز على وجه الآخر. هذا ليس فيه سوء ان كان الذكر والانثى حرين من كل عهد. لكن الصداقة دائماً حارة وعلى من يدخل في هذا الطور يجب ان يعلم نهاية الطريق.

الصداقة صحوة مثلى واستقلال بلا انفصال وارتباط بلا تبعية وشوق بلا استعباد وفكر لا تشوشه غريزة ووضوح كبير. في احسن حال هذا يحدث بين المرأة والرجل تحرقاً قد لا يكونان قادرين على مراقبته.

الصديق الكبير الكبير لا يطلب امتيازاً ولا يمارس "مونة" ويجتنب كثرة الهدايا وبخاصة اذا كان الصاحب فقيراً. هي الحرية الداخلية الكبيرة والعزاء المطيب للنفس المضغوطة وللنفس الملتمسة التطلعات السامية والمحتاجة الى بركات الثقة. هي واحة من صحراء الوجود، لذاذة فردوس قبل ان يستقبلنا ملكوت الله.

 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com