عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E اخبار مسيحية

14/7/2009
موجوع ابدا بحب السماء_ المتروبوليت جاورجيوس خضر

موجوع أبداً بحب السماء"

المطران جاورجيوس خضر

أرى نفسي على جهلٍ كثير. ما تعلمتُ الرياضيات في صباي حسناً، وما أقبلتُ على الحاسوب. خفتُ. أجيءُ من حضارةٍ أخرى فيها كلمات. كلماتُ – رموز - تحكمُنا اليوم. تعرِفُها الشبيبةُ. لا أعرفها. ربما تعود هي أيضاً إلى الكلمات التي أجيء منها.
يلحنون إذا قرأوا، أي انهم يجهلون قواعد اللغة. عقلُكَ أنتَ يجيءُ من اللغة، بعد أن جاءتِ اللغةُ منه قديماً. إذا أَلْحن عندي قارئٌ في الكنيسة، أو ألحن مذيع، شعوري الأول أن خللاً عقلياً أصابه، وسرعان ما أدركُ أن عقلَهُ لا يحتاج إلى نظام اللغة. كانت عندي خادمةٌ اسمُها ليلى، أخبرتني أولَ استخدامِها أنها أميةٌ مع أنها كانت تفهم أخبارَ الإذاعة (الفهم له سراديبه). كانت ترتِّبُ مكتبي كلَّ يومٍ، وكان يصعب عليَّ أن أصلَ إلى الاوراق التي كانت متراكمةً بلا ترتيب قبلَ تدخُلِ ليلى. فكنتُ أُلحّ عليها بإهمالِ مكتبي لئلا يحجبَ ترتيبُها عدمُ ترتيبي، الذي كنت أعرفُ أن أستدلَ منهُ على ما أحتاج إليه.
صرتُ أفهم أن حضارةَ الحاسوب - وما يستتبعه من آلياتٍ وتالياً من معارفٍ - صندوقٌ مقفلٌ لم يبقَ لديَّ وقتٌ ولا قوةٌ ولا فضولٌ لألجَ أسراره. وفي مطلع شبابي لم يكن يزعجُني أني لا أفهمُ الرياضيات، التي كان يُقال في أوساطنا المدرسية أنها تروّض العقل، حتى أن المتعصبين لها كانوا يذهبون إلى أنكَ إن كنتَ خالياً من عقلٍ رياضي لا بدَّ أن فيك نقصانا ما. وأنا كنتُ أذهبُ إلى أنك قادرٌ على أن تروضَ عقلَكَ باللغةِ فقط، وأن تصقلَ إحساسكَ بالشعرِ، ثم أن تتربى على الفلسفةِ؛ حتى التقيتُ ناساً لا يتحسسون الشعرَ إطلاقاً، ولا تجذبهم الموسيقى الأوروبية، ويعيشون مع ذلك عيشاً معقولاً في التجارة والمال والعائلة. ولاحَ لي من خبراتٍ متنوعة أن الإنسان يستطيع أن يحب زوجَهُ وأولادَهُ بلا شِعْرٍ مسبوك، وأن يكتفيَ بالطرب الشرقي الذي يصل إلى كل الآذان عندَنا وإلى كل القلوب.
غيرَ أن ما هالني من زمانٍ طويل أني لستُ فقط مقصراً في العلوم الدقيقة الطبيعية، وأني مقصرٌ في كلِّ علم. ربما بسبب ازدياد أتعابي وتنوّع أمراضي بِتُّ منجذباً إلى الطب كثيراً، ويُعجب طبيبيَ الخاص بوصفي الدقيق لأعراضِ المرض عندي. ولما قَويَ انشدادي إلى الطب، تعمَّقَ فهمي للإنسان ولوحدته، وأدركتُ أن العلومَ التي تلقيتُها وكلُّها من نطاق اللغة غيرُ كافية. الحقوقُ لغةٌ واللاهوتُ لغةٌ. ذلك أنكَ تعالج نصوصاً تعربُها فتفهم، وتصيرُ من عندك نصاً آخرَ فيفهمُك الآخرُ.
كلُ شيءٍ خطاب. وإذا عدنا إلى البدايات نقول: "في البدء كان الكلمة". فإذا كان في البدء، فهو قبل البدء، أي أنه خطابُ الله. المسيحيُّ يحمل حديثَ الله، أي يحمل الله، لأن الله لم يكن يوماً بلا خطاب. فإذا ابتغيتَ الله تذهبُ إلى فكره، وفكرُهُ في ما قالَ، أو في من قال. الله مَقولٌ وبمعنى، ابنُهُ نصُّهُ، والإنجيلُ نصُّ النصِّ.
هنا تُواجهُ مسألةً كبرى، أنك تصل إلى الله من خلال نصه. هذا لا يعني أنك تصل بعقلك فقط، لأن النصَّ ليس فقط عقلياً. إنه ينزل إلى القلب. يقرأ القلبُ أيضاً بلا لغة. ومن هنا يقيني أن الله ينقلُكَ إلى جوفِهِ بلا كتابٍ ألهمَهُ أو أوحاهُ. هذا شأنُهُ مع عبادِهِ. ولكني أنا العارفُ بكتبِهِ مقيدٌ بمعرفتِها، ولست حراً أن أطلع عليها أو لا أطلع. أنا لا أستطيع فقط أن أتصلَ بالله من طريق الروح أو القداسة - واتصالُها أعظمُ اتصالٍ -، إني مضطرٌ إلى أن أتصلَ من طريق الفكر الذي ليسَ مجردَ فكرٍ على طريقةِ "أنا أفكر، إذاً أنا موجود". أنا أعرف أناساً لا يعقلون أمراً إلا وهم في قلوبهم. هناك كتّابٌ تأمليون هم بالدرجة الأولى مفكرون، أي يسطعون فكراً مبنياً، مترابطاً، عاقلاً ومعقولاً، ولكنه مع القلبِ دائماً في تماس، بحيث لا تعرف إذا كان منطلقهم شعوراً بحتاً أو فكراً محضاً، ولكنك تشهد مزاجاً عجيباً بين مشاعرهم والعقل.
في تصوري أنه ليس من فيلسوف محضٍ على لباسِ الجفافِ الذي تراه عليه أحياناً، لا شيءَ يصدر عن الإنسان غيرُ مرتبطٍ بالقلب. أنا لا أقول أن المفكرين هم الطبقة العليا من الناس البسطاء، قد يكونون أعظم إذا كانوا على كثافةٍ رهيبةٍ من المحبة.
قلتُ لكم كل ذلك لأقولَ أني لستُ نادماً على أني لم اقرأ كلَّ شيء. سأموتُ جاهلاً، ليس فقط للعلوم التي ذكرتُ لكم أني أجهلُها، ولكني سأموت وأنا لا أعرف في بلدي أو في غير بلدي من وددتُ أن أعرفهم، إذ كنت أحس بأن عندهم الكثير مما أردتُ أن أتزودَهُ. ما لم أعرفهُ أو من لم أتعرف عليهم فراغاتٌ في نفسي أو فراغاتٌ في قلبي. ولكن ما العمل؟
ما المصيرُ أنك لم تقرأ كلَّ شكسبير وكلَّ المتنبي أو كلَّ دوستويفسكي إذا أخذت الجمال الأدبي. قد تهزُّكَ جمالياً سورةُ يوسف أكثرَ من نصوصٍ كثيرة. أنا لم أقرأ متصوفين كثيرين وعدداً من آبائنا القديسين. ولكني قرأتُ أشعيا وأيوب وإنجيل يوحنا. وهذا يسدُ جوعي إلى الحق. صبغَتُكَ بالحقِّ هو النورُ الذي يصل إليكَ، وهو دليلُكَ إلى النور الذي لم يصل. ليس من بشرٍ يعرفُ كلَّ شيء، وفي هذا أحدُ مفاتيحِ التواضع، والتواضعُ أعظمُ من المعرفة.
قد تصلُ إلى الكثير من علم التفسير إذا كنتَ عاشقاً لتداولِ النصوص، أي أنكَ قادرٌ على أن تصلَ إلى دقائقِ كلماتٍ إلهية، إلى ما تكشفُ وإلى ما تخفي، وقد تصلُ إلى العلاقاتِ بين سفرٍ وسفر من الكتاب الإلهي، وتفهم تعاقُبَ الأسفار والقصدَ الإلهيَّ من هذه السطور مركبةً، متراصةً، ساطعةً، راقصةً؛ ولكن لا تكون بالضرورة واصلاً إلى عتباتِ الله، لأن اللهَ أعظمُ من الكلمات التي قالَها، وهو إن كان فيها إلا أنه ألهم واحداً ليقول: "إن اللهَ أعظمُ من قلوبنا". أي أنه يسكنُها، ولكنها لا تستوعِبَهُ، وإذا أنتَ انتقلتَ إليه في اليومِ الأخير تسقط عليك أنوارٌ منه فتحيا بها. ذلك أنه دائماً يتعالى، وأنتَ إليه كالمرأة النازفة الدم التي لمست هُدبَ المسيحِ فشفيت.
لماذا كلُّ هذه العلوم، لماذا كلُّ هذه الآداب وهذه الحضارة؟ اللهُ مخبّأٌ في كلِّ هذه وعليك أن تسعى إليه في مخابئه. وإن أخطأتَ هذا القصد يكون تعاطيكَ هذه الأمور مفيداً لمعيشتك هنا، وتكون قد ظننتَ أن الله مكشوفٌ فقط في الكتبِ المقدسة، لا تكون قد قرأتَ كلَّ تجلياتِ الله. أما إذا فاتك شيءُ من المعارف - كما فاتني أنا - فالله يُعرِّفُكَ بلمساتِهِ وبحضوره فيك. والمهم إن عرفتَ أشياءً ألا تستكبر، وإن جهلتَ أشياءً لا تبرر كسلَكَ - إذ يُخشى أن تفوتَكَ جمالاتٌ إلهيةٌ خفيةٌ في العلوم أو الشعر والفنون بعامة - تكون قد أهملتَ الله، ومع ذلك يغفر الله لك جهلكَ، كما غفر لي جهلي على ما أحسب. إنه يعوضكَ بملاطفاتٍ لا يسوغُ النُطقُ بها. وفي كل حالٍ اللهُ يغنيكَ إن كنتَ من العارفين أو من الجهلاء.
اذهب عن هذه الحياة مطمئناً إلى الرحمة التي هي تكمّلكَ. ذلك أن الجهلَ جهلُ الفضائلِ والمُتَعِ السموية. بعدَ كلِّ هذه النواقصِ والتحولاتِ في دنياكَ؛ المهمُّ أن تُحسَّ أنكَ "موجوعٌ أبداً بحبِّ السماء" كما تقولُ حنان عاد في "لؤلؤ الروح على صهوة القيمة". إذا بقيتَ على هذا الوجعِ تبدأُ رحلتُكَ إلى القيامة.

 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com