عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E نجمه في المشرق

المعنى الروحي للصوم _ المتروبوليت بولس يازجيا

المعنى الروحيّ للصوم ..عظة المطران بولس يازجي

عظة لصاحب السيادة المطران بولس يازجي الجزيل الاحترام
II. 
القراءة الروحيّة للصـوم

مقدمـة
"
حلَّ آدم الصومَ وسقط"! تخفي هذه الكلمات في طيّاتها معانٍ عميقة تتجاوز كثيراً المعنى القضائيّ للتعدّي على الوصيّة. إنها حقيقة استبدال حياة بأخرى. لقد أوصى الله (وهذا هو الخير) آدمَ بوصيّة الصيام كطريقةِ حياةٍ: "من كل شجر الجنة تأكل إلاّ من هذه الشجرة". لكن آدم اختار طريقةً مغايرة ثانية للحياة، لقد  تصرف ليس بحسب الوصيّة إنّما بحسب "كلّ ما هو شهيّ للمنظر". لم تكن هذه الشجرة (معرفة الخير والشرّ) ذات طبيعة خاصّة بها أو كان لها ثمارٌ تجلب الموت! لقد كانت شجرة "لـ" معرفة الخير والشرّ، كانت مفترقَ طرقٍ بين اتجاهين لطريقتَي حياة متغايرتين، تلك التي مع الصوم وهذه التي مع كلّ ما هو شهيّ للمنظر.لقد كان قرار آدم تفضيل حياة الحواس على إحياء العلاقة مع الله! لقد حوّل حركاته الداخلية (عشقه و اهتمامه) من الله إلى المادة. بعد أن أُعطيت له المادّةُ هديّةً إلهيّةً، العالمَ وكلَّ ما فيه، أراد هو أن يأخذها لذاته غاية، فلم تعدْ تشبع حاجاته وحسب، ولكنّها بقراره صارت "شهيّة للمنظر" تستملك أهواءه وميوله ورغباته. كان السقوط اختياراً خاطئاً في استخدام العالم. وهذا ما يعنيه "حلّ الصوم" أو الوصيّة. بينما كانت الوصيّة هي إشارة إلى طريقة استخدام العالم بحقيقته كصلة وعمل مشترك بين الله والإنسان. لقد كان مقدَّراً للعالم أن يُدخل الإنسان مع الله في شركة- وهذه هي حالة استخدامه الصياميّة- لكن تداعي آدم أمام الحواسّ جعل العالمَ أداةَ فصلٍ بينه وبين الله. لقد كان السقوط سعياً للتألّه قبل أوانه وخارج طريقه. كان طريقاً للتألّه مبنيّاً على تأليه الحواسّ، لكنَّ الحسيّات تعيدنا إلى العالم ولا ترفعنا إلى الله. لقد أضحت الخليقة صنّارة شيطانيّة اصطادت الإنسان، فانحرفت هكذا ميولُه عن الرغبات الأصليّة إلى مجرّد الأمور الماديّة. استبدل الشيطان للإنسان مُثُلََه وأولويّاته، فأضحى العالمُ بعد أن كان هديّةً إلهيّةً سيعيدها الإنسان قرباناً صار أداةً للغواية والخدعة الشيطانيّة. فالتصقت حياة الإنسان بالماديّات وانغلب الروح أمام المادّة. وتركّزت الاهتماماتُ البشريّة حول الحسيّات وضاعت الحضرة الإلهيّة. حتّى أنّ آدم عندما عاد وسمع خطوات الله، بعد أن مال إلى إشباع الشهوات، اختبأ. لأنّ هذه الحضرة التي كانت كلَّ حياته سابقاً صارت مقلقةً ومزعجة لثمرة هذه الشجرة،  الشهوة!
عندما ضلَّ الإنسان استُبدٍلتْ شركتُه مع الله بشركتِه مع الماديّات والعالميّات. لهذا يعتبر آباؤنا القدّيسون أنّ سقوط الإنسان أدّى إلى سيطرة "ثلاثة أهواء جبّارة" تتفرَّع عنها كلُّ المشاكل وتتلخّص فيها كل أسباب النـزوات والأخطاء. وهذه الأهواء هي الجهل (بسبب الخدعة) والنسيان (بسبب الانشغال بالماديّات) وأخيراً الكسل (لأنّ المادّة بدون الصوم لا تعطي روحاً).
ولم تعدْ أشواق الإنسان إلى الله، بعدما استبدلَها باشتهاء الحسيّات، لم تعدْ تكفيه لسعيه إلى غايته الحقيقيّة. وصارت طاقات الإنسان موزّعة بين الله والدنيا، بينما كان يُفترض على الإنسان أن يحبَّ الله فقط ويتناول حاجته من العالم دون غواية، أي بعفّة.
لقد أراد آدمُ أن يتألّه دون صوم، أي حاول أن يصل إلى غاياته دون سعي وتعب، وكأنَّ المسألةَ سحريّةٌ مجرّد أن نشتهي العالم (نتناول من الثمرة ونشتهيها) نصير عارفين للخير والشرّ- آلهةً. لقد استعاض عن أتعاب الحياة الروحيّة (وصيّة الصوم) بالسحر (الشهوة)، والسحر لا يحقّق حقيقة. المسألة هي أن نحدّد غاية حياتنا؟ أهو الله أم هي المادّة؟ وهذا يجيب على السؤال: هل نحن صائمون أم لا؟ لقد أخرج آدمُ اللهََ من حياته وأدخل الحسيّات، ونحن نصوم لكي نحيا حياة آدم الفردوسيّة الإنسانيّة الأصيلة، فندخل الله إلى حياتنا ولا نجعل الأطعمة والحسيّات تأخذ اهتمامنا. وحتى حين نتناول العالم فإنّنا لا نأخذ لنا أيّة مادّة منه قبل أن نروْحِنها، أي نستخدمها كأداة صلة مع الله وشكر له. الصوم إذن هو حركة لنغلِّبَ الروحَ على المادّة، إنّه سعي إلى القيامة الروحيّة.
لا يمكن للإنسان أن يتلمَّس مقدار تسلّط هذه الأهواء الثلاثة (الجهل والنسيان والكسل) دون "الاعتراف"، أي العودة إلى الذات والله، وهذه الأخيرة تستخدم العالم كأداة تذكير بالله وليس كانشغال عنه، والصوم هو طريقة تحويل المادّة إلى هذه الآلة بعد أن كانت غواية. لا يعني الصوم هجر المادّة بل الترفّع والزهد عن غوايتها. فتلك مباركة وهذه غباوة.

1. 
شفاء الجهل
"
يا جاهل"! بهذه الكلمة عبّر يسوع عمّن أراد أن "يغتني لنفسه وليس بالله" [28]. لقد أخطأ آدم الخيار بين طريقتَين في الحياة، فصار جاهلاً! ولما تمادى في الخضوع للحسيّات جعلت هذه الأخيرة ذهنه أكثر ظلاماً و"غباوة". لذلك يقول الراهب بيمين: "لولا أن نبوزردان رئيس طبّاخي البابليّين لم يذهب إلى أورشليم لما احترق المعبد"، مشيراً بذلك إلى مدى تأثير التهافت لإشباع لذّة الجوف على الصفاء الروحيّ والحريّة الداخليّة: "هكذا الإنسان لا يحترق إذا لم تسيطر عليه شهوة الطعام". ويتكلّم الأدب الرهبانـيّ عن حالات دقيقة جدّاً ومرهفة. لقد زار أحد الرهبان مرّة الأب أشعياء في زمن صيام فقدّم له هذا الأب قليلاً من العدس. ولما ذاق الراهب الطعام قال للأب أشعياء: "كان يحتاج لبعض السلق أيضاً". فأجابه الأب: "اشكر الله يا بُنـَيّ أنّنا قدّمنا لك اليوم مائدة فصحيّة، هذا يكفينا". نعم يدقّق النسك الرهبانـيّ على وجود هذا الهوى حتّى في حالات كهذه. الصوم يعني التخلّي عن "الشهوة" وليس عن الطعام بحدّ ذاته، وإن كانت تلك الشهوة لا تغادرنا قبل أن نتجرّد عن الأطعمة نوعاً وكمّاً. ولكن ترك الأطعمة والمحافظة على شهوتها هو صيام ناقص، أو غير ناضج تماماً.ويُروى أنّ أباً راهباً اصطحب في الصيام معه تلميذه إلى عيد دير مجاور؛ وكانت العادة في الأعياد أن يمدّ الرهبان مائدة الطعام مباشرة بعد القداس الاحتفالـيّ أي عند الظهيرة. وهذا ما حصل تماماً. لكنّ التلميذ تردّد في تناول الطعام لأنّ صومهم كان يستمرّ بالعادة حتّى الغروب كما في الأديار، ولهذا قرّر أن يتناول من المائدة فقط في حال أنّ معلّمه الأب يتناول منها. وبالطبع جلس الجميع والأب معهم إلى المائدة وتناولوا طعام العيد، ومثلهم صنع هذا الراهب التلميذ. ثم في طريق العودة مع معلّمه بلغا إلى عين ماء، وكان العطش قد أضناه، فاستأذن التلميذُ من معلّمه أن ينتظره حتّى يشرب، فقال له المعلّم: ألسنا في صيام؟ قال التلميذ، لقد تناولنا ظهراً الطعام! أجاب الأب: نعم يا بُني هناك كسرنا صومنا من أجل المحبّة، ولكن هنا أنت تحلُّه من أجل الشهوة!أوّل دور للصيام هو تحويل الذهن من العالم إلى الله [29]، وهذا ليس بالضرورة عن طريق ترك العالم، إلاّ تدبيريّاً حين يتحتّم ذلك. لذلك يعترف الأدب الرهبانـيّ أنّ الراهب لا يحرق عشقه ولكنه يحوِّله "فيستبدل عشقاً بعشق". بالصوم يعرف الإنسان الشهوة الحقيقيّة- العشق الإلهيّ. الصوم يُصلح "التهذيب" و"الذوق". لقد كان السقوط انحرافاً في الذوق ويأتي الصوم ليُصلح هذا الذوق البشريّ المخدوع. بالصوم يؤكّد الإنسان لذاته أنّه "لا يحيا بالخبز وحده بل بالأحرى على كل كلمة تخرج من فم الله". يكوّن الصوم هذه الحكمة. ولا تأتي حكمة كهذه دون تعاطٍ مع العالم كهذا. إن صوم الجسد يشدّد الذهن [30]، إنّ الصوم يحرّر الإنسان من الجهل ويخلق فيه "النبوّة" [31].يحدّد لنا الصوم "خبزنا الجوهريّ" ويرتّب أولويّات اهتماماتنا وحدود كلّ اهتمام منها ومساحته في زمن حياتنا. لهذا بالصوم رتَّبت الكنيسة أن يزداد تواتر المؤمنين على الكأس المقدّسة وأدخلت "قدّاس السابق تقديسه". ولعلّ التقشّف والبساطة في الصوم هما أحوج الأمور إلينا للردّ على تسلّط هوس "الرفاهيّة" في حياة الناس اليوم. يعيد الصوم نهاية "السباق" إلى مبتغاه الصحيح. يتسابق الناسُ اليوم على تأمين "الرفاهيّات" في الحياة، وصارت الكماليّات أساسيّات ولو اضطرّتنا إلى التضحية بكلّ ما هو أساسيّ في حياتنا من الراحة والعلاقات الاجتماعيّة الضروريّة. إنّ صنم "الكماليّات" وطلب "السهل" صار إلهَ هذا العصر، ولا تحطِّمه إلاّ بساطة الحياة وتقشّف المعيشة في الصوم. لقد بات الصوم اليوم أكثر ضرورة من أيّ زمن أسبق، وذلك بسبب هيمنة الشهوة والطيَِّب للنظر والحواسّ على مجتمعاتنا وعلى مفاهيمنا. يتراكض الناس ولكن في اتجاهات "ضالّة"، ويتسابقون على اقتناء "الكماليّات"، بينما يعيدنا الصوم إلى السعي لاقتناء الخبز الجوهريّ والتسابق في طرق الفضيلة. إنّ حكمة الناس في دهر الكماليّات هي "كُلْ بقدر ما تستطيع" أي لأكبر حدٍّ ممكن طبيعيّاً أو غير مضرٍّ صحيّاً. لكن حكمة الإنسان في الصوم هي "صُمْ قدر ما تستطيع"، أي لا تأكل قدر ما تستطيع بِشْرتُك. تتبدّل في الصوم النظرة إلى الحياة في غاياتها وفي مصادرها. "في بطن امتلأ من الأطعمة لن يوجد مكانٌ لمعرفة أسرار الله" (اسحق السريانـيّ).لذلك يترافق الصوم مع الصلاة (الخبز الجوهري) ومع أعمال الإحسان. فتتحوّل طاقات النفس وملكاتها وممتلكاتها نحو غاياتها الصحيحة نحو الله والقريب، نحو بناء علاقة وليس بناء ملكيات. يفتح الصوم الإنسان على عالم الآخر، الله والقريب. "قيمة الصوم ليست بالابتعاد عن المآكل بقدر ما هو الابتعاد عن الخطايا... فماذا يفيدنا الإعراض عن أكل لحوم الخنازير والسمك حين نأكل لحوم أخينا الإنسان"، يقول القدّيس باسيليوس الكبير. وغياب الصوم يغلق الإنسان على ذاته التي لا تشبع وتجعل القريب جحيماً والله مغيَّباً.يختبر الإنسان في الصوم القول المسيحيّ "يا ربّ خلقتنا ميّالين إليك ولن نرتاح إلاّ بك". أليست هذه الحكمة أساسيّة في الحياة؟ أو ليسَ غيابها جهالة فظيعة وظلم في حقّ الحياة البشريّة؟

2.  شفاء النسيان
تذكر رواية التكوين وبدقّة متعمَّدة شجرة

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com