عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E

عظة عن الصوم: سيادة المتروبوليت بولس يازجي

مطران طائفة الروم الأرثوذكس في حلب
من كتاب "السائحان بين الأرض والسماء" الجزء الأول

المعنى الروحيّ للصوم
I.
تاريخ الصـوم

مقدمـة

الصوم هو ظاهرة بشريّة ارتبطتْ مع كل الأديان. وتعدّدت أشكاله ومفاهيمه بتعدّد هذه الأديان. وفي المسيحيّة يحتلّ الصوم أهميّة خاصّة. فعندما عجز التلاميذ عن طرد الشيطان مرّةً، سألوا الربّ يسوع بعد أن أخرجه، "لماذا لم نستطع نحن؟"، أجابهم: "إن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" [1]. وهذه الأهميّة يشهد لها الكتاب المقدّس بعهدَيه. كما نجد أنّ هناك ثمّة تطوّر في فهم معنى الصوم وممارسته، بلغ ذروته في زمن العهد الجديد، عهد النعمة، وفسّره التقليد النسكيّ الشرقيّ بخاصّة.

إنّ عالمنا الحاليّ، وخاصّة الغربيّ وبعض المسيحيّين بتأثير منه، لا يعطون للصوم قدره الحقيقيّ ويجهلون معناه الصحيح. لذلك وإن امتدحوا الاعتدال بالطعام ونظّموا له ضوابط وحميّة (régime) خاصّاً، غدا أغلب الناس يملكون نماذج منه، فإنّهم يعتبرون الصوم تعذيباً للجسد ومضرّاً للصحّة ولا يرون فيه فائدة روحيّة؛ وقد يعتبرونه في أفضل الأحوال ممارسة دينيّة لا يعرفون ضرورتها إلاّ "الشرعيّة"، ولا يدركون فائدتها لذلك قد يبدو لهم مجرّد فرائض دينيّة ضدّ الجسد وملذّاته تتطلبها بعض القساوة التي في الدين. بالطبع ليس الصوم مجرّد "حرمانات" أو "كبتاً" أو "تعذيباً" أو كما يعتبره البعض استغفاراً! إنّ للصوم معنى ً أنثروبولوجيّاً وروحيّاً عميقاً جدّاً، لذلك يستحقّ أن نفهم دوره الحقيقيّ في حياتنا وبالتالي نكتشف ضرورته، ونحدّد إذن كيفيّة ممارسته.
لهذا يتوجّب علينا أوّلاً تحديد معنى الصوم وممارسته في الأديان عامّة، وفي العهد القديم، ثم الجديد خاصّة. وأن نتوقّف بعدها عند البعد الأنثروبولوجيّ الروحيّ كما يفسّره النسّاك والقدّيسون في تقليدنا الشريف.
الصوم هو إشراك للجسد في العبادة، والترفّع عن بعض متطلّباته رغبةً منّا في التعبير عن معانٍ روحيّة نحو الله. فلمّا كان الإنسان نفساً وجسداً كياناً واحداً، كان من العبث أن نتصوّر ديانة روحيّة محضة. إنّ النفس لكي تلتزم بشيء ما وتعبّر عنه تحتاج إلى أفعال الجسد وأوضاعه الخارجيّة. لذلك يُعبَّر عن الاحترام (موضوع روحيّ) مثلاً باللباس والانحناء أو السجود، وعن الفرح بالألوان وأشكال واحتفالات، وعن الحزن بالصوم واللباس... الخ. يعبّر داؤود النبيّ عن شوقه إلى الله فيقول: "عطشتْ إليك نفسي وتاق كثيراً إليك جسدي" [2].
يتمّ الصوم بأحد شكلين، "الانقطاعيّ" أو "الامتناعيّ"، أو بالشكلين معاً، أي الانقطاع عن الطعام والشراب، وعند الاقتضاء عن العلاقات الجنسيّة خلال فترة محدّدة، أو بالامتناع عن بعض الأنواع من المأكولات.

1.  الصوم في الأديان
كان الكهنة قديماً بمعظمهم من الأطباء، لذلك ترافق الصوم قديماً مع مفهوم الصحّة، وكان المصريّون يصومون فترات تتراوح بين 6 أيام وبين 7 أسابيع. وصام اليونان دائماً قبل الحروب. وصام الرومان قبل أعياد ذيمترا (???????) وذيّوس (????). ويلاحظ مؤرخو الأديان أنّ الصوم كان يحتلّ مكاناً هاماً في الممارسات الدينيّة بدافع النسك والتطهير والحداد والتوسّل إلى الله والاعتراف بالضّعة البشريّة والسموّ الإلهيّ.

2.  الصوم في العهد القديم
صام اليهود في العهد القديم عدّة أصوام قبالة الأعياد الكبرى لديهم. فصاموا يوماً واحداً قبل عيد الغفران [3] وذلك للتواضع أمام الله [4] وصاموا جماعيّاً في ذكرى النكبات الوطنيّة بعد السّبي. ويتكلّم داؤود النبيّ في المزامير عن أصوام كثيرة: "حتى كلّت ركبتيَّ من الصوم".
ويبدو أنّ اليهوديّة كانت قد حدّدت صوماً أسبوعياً يوم الخميس. أمّا الفريسيّون فكانوا يضيفون عليها يوم الاثنين أيضاً، وذلك إحياءً لذكرى صعود موسى إلى الجبل ونزوله منه. لهذا ادّعى الفريسيّ أمام الله أنّه يصوم مرّتين في الأسبوع وليس مرّة واحدة كما العامّة من الناس [5]. ويذكر إنجيل لوقا حنّة النبيّة [6] وتلامذة يوحنا المعمدان. كما يتّضح أنّ جماعة الأسّانيّين كانوا يصومون كثيراً وينقطعون كلّياً عن اللحم والخمر. وهناك "أربعينيّات" مقدّسة صامها كبارُ الأنبياء مثل موسى [7]، وإيليا [8]. وعلى غرارهم صام يسوع [9]. بالطبع إنّ هذا الامتناع عن الأكل لا يعني احتقاراً للمادّة بل هو بسبب من دوافع روحيّة خاصّة. لأنّه بالصوم يتّجه الإنسان نحو الربّ [10] أو يطلب الغفران [11] أو يلتمس شفاءً [12] أو يعبّر عن حزنه [13] أو لمنع وقوع كارثة ما [14]، كما يمكن أن نصوم من أجل فتح القلب على النور الإلهيّ [15] وخاصّة للاستعداد من أجل ملاقاة الله [16]. كانت الأصوام اليهوديّة تقوم على تأخير الوجبات (انقطاع) إلى المساء واختصارها. كما كانت تُمنع الزيجات في الصوم.

3.  الصوم في العهد الجديد
صام يسوع "الأربعينيّة" كما موسى وإيليا، لكن يظهر أنّه لم يشدّد على حفظ أصوام العهد القديم والعادات اليهوديّة بل وكأنّه في بعض المرّات كان يدعو لتجاوزها. ومع ذلك فإنّ نوعاً من التقشّف والنسك ساد تعاليمه، فهو لم يأتِ لينقض وإنما جاء ليتمّم [17]. وعلّمنا أن نصلّي ونطلب من أجل الخبز الكافي لليوم فقط [18] و"أن نطلب أوّلاً ملكوت الله وبرّه" وبعدها أيّ شيء آخر. ويبدو أنّه كان، كما في كلّ تعليمه، يجدّد في روحانيّة الصوم فيشدّد على "التجرّد" والترّفع وتجنّب بعض الأخطار التي كانت تترافق مع "الأصوام"، مثل خطر التمسّك بالشكليّات والكبرياء، أي الصوم "لكي نظهر للناس صائمين". وكان يدعو لأن نصوم بكتمان وتواضع، أي لله: "فمتى صمتم لا تكونوا عابسين كالمرائين... بل لأبيك الذي في الخفاء" [19].

ولقد حافظت الكنيسة في القرون الأولى على الأصوام اليهوديّة ولكن بالروح التي أملاها عليها يسوع. وهناك ذكر لأصوام في سفر أعمال الرسل كانت تتطلبها بعض الاحتفالات والحالات الخاصّة [20]: "بينما هم يخدمون الربّ ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذٍ وصلّوا ووضعوا عليهما الأيادي ثم أطلقوهما". لقد سبق يسوع ودافع عن تلاميذه أمام اتّهامات اليهود عليهم بأنّهم لا يصومون كتلامذة يوحنا، لكنّه قال: "ما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن سيأتي زمن يُرفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون". فإلى أن يأتي إلينا العريس من جديد، سيبقى الصوم محتفظاً بمكانة خاصّة في الكنيسة. لم يكتفِ بولس- على ما يبدو- بالأصوام العاديّة، فرغم العطش والجوع والأسفار، أضاف إلى ذلك أصواماً عديدة [21].

لقد استلمتْ الكنيسة هذا التقليد وتابعت الأصوام التي في اليهوديّة بالروح التي جدّدها المسيح، فصار الصوم "أداةَ توبة" وليس "مفخرةَ تبرير". ولهذا مالت الكنيسة في أيامها الأولى إلى إبراز هذا التجديد، لكي لا توضع رقعةٌ جديدة في قطعةٍ قديمة. لهذا يذكر كتاب "تعليم الرسل الاثني عشر" (القرن الأول): "صوموا الأربعاء (التسليم) والجمعة (الصلب) على خلاف اليهود المرائين" [22]. وتكرّر "الأوامر الرسولية" (القرن الرابع) الوصيّة بالصيام [23]. ونجد عند القدّيس أبيفانيوس أنّ صوم الأربعاء والجمعة هو تقليد رسوليّ [24]. لقد تمحورت الأصوام في الكنيسة حول العيد الأهمّ، موت المسيح وقيامته. ويذكر يوستينوس الشهيد والفيلسوف أنّ المسيحيّين حفظوا هذا الصوم بشدّة وقساوة [25].

لم تكن فترة الصوم قبل الفصح محدّدة حتى القرن الرابع. حينما، مع تنصير الإمبراطوريّة، حُددٍّت بـ 40 يوماً فكانت اقتداء بالأربعينات المقدّسة لموسى وإيليا وخاصّة يسوع. يرد ذكر هذا الصوم في المجمع المسكونيّ الأوّل النيقاويّ (325) وفي القانون الخامس من مجمع اللاذقية المحليّ (364). وصارت هذه الأربعينيّة تسبق الأسبوع العظيم والفصح [26]. وبالإضافة إلى هذا "الصوم الكبير"، الذي دُعي هكذا لأهميّته ولطول فترته، هناك قبل كلّ الأعياد الأساسيّة أصوماً تمهيديّة، قبل أعياد الميلاد ورقاد السيّدة والرسل. وهناك أصوام في برامون الأعياد الكبرى وسواها وفي عيد قطع رأس يوحنا المعمدان، إلخ...

هكذا يتّضح لنا كمْ يحتلّ الصوم مكانة روحيّة خاصّة في حياة الكنيسة منذ العهد القديم مروراً بيسوع المسيح والرسل والتقليد الشريف. لهذا علينا بالتالي أن نتلمّس الروح الحقيقيّة للصوم، وذلك لفهم معناه الحقيقيّ وضرورته وكيفيّة ممارسته بالنهاية، لننال ثماره الصالحة. رغم أنّ للصوم وجهاً كنسيّاً عامّاً فله أيضاً وجه خاصّ. فإذا كان الوجه العام يشير إلى مشاركتنا مع الكنيسة جمعاء ويثبّت عضويّتَنا فيها، فإن وجهه الخاصّ يفتح الفرصة إلى "الاختبار الشخصيّ" العميق للحياة بالروح.

 لقد صام آدم في الفردوس تماشياً مع الوصيّة والرغبة الإلهيّة، وذلك قبل وجود الخطيئة ووجود حاجة للاستغفار أو وجود الحلال والحرام والطاهر والنجس! وهذه الملاحظة تقودنا إذن إلى التساؤل حول غاية الصوم الحقيقيّة، التي كانت له منذ البدء قبل السقوط، مهما دخلت على معانيه ممارسات جديدة بعد السقوط أيضاً. سنناقش الصوم إذن من أبعاده النسكيّة العميقة، وذلك بناءً على المفهوم الأنثروبولوجيّ النسكيّ الشرقيّ الأرثوذكسيّ. انطلاقاً إذن من صوم آدم في الفردوس، نعترف أنّ للصوم دوراً وضرورةً غير الاستغفار والأعياد وسواها، على ضرورة هذه الدوافع الأخيرة. فللصوم إذن وجه إيجابيّ أصيل قبل الوجوه السلبيّة الدخيلة عليه بعد السقوط والتي تمارسها

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com