عن الكنيسة

كاهن الكنيسة

جمعية الكنيسة

مواقع

C??????E نجمه في المشرق

23/6/2009
سيادة المطران بطرس المعلم الموقر

 

 

أعراسنا

                                          بقلم : المطران بطرس المعلم
البلاد كلها في عرس. نسينا أحزاننا ومآسينا: الوفيات العادية، وحوادث الطرق، والقتل والثأر و"غسل الشرف"، وأزمات السكن والمعيشة والتعليم، وعجائب السياسة والأحزاب، وغرائب السمسرات والصفقات، وفضائح السرقات والأخلاق والخيانات. نسينا ذكر الحرب الماضية وشبح القادمة، ووضعنا كل شيء في برّاد النسيان وثلاّجة التاريخ، لكي نتفرغ لأفراح الموسم. فالدنيا بألف خير، والجو جو أعياد. انه عيد الأعراس.
القاعة محجوزة منذ أكثر من سنة، و"الفرقة" كذلك. وقيل لنا ان هناك ايضا مواعيد، ويجري تحديدها قبل شهور، مع دور أزياء لفستان العروس التاريخي، ومع محلات لتصفيف الشعر وللماكياج والمانيكور وما سوى ذلك. هنيئا لبعد النظر ودقة تحديد المواعيد!!! – أما تجهيز البيت فلم يهدأ طوال الشتاء والربيع، من الصالون الى غرفة النوم الى المطبخ...وبالموازاة كانت فِرَق العمل المتخصصة تعمل بلا كلل: إعداد لوائح المدعوين، الإشراف على قوائم الطعام والشراب، الاتصالات اللازمة وإجراء الحجز مع شركات السفر والفنادق لشهر العسل... أما الآن فقد حان وقت اللمسات الأخيرة والتفاصيل: تعبئة العلب، سهرة العروس، زيانة العريس، طلعة العروس، الزفّة، النقوط، سهرة العروسين... و مبروك!...نحن أيضا نقول : مبروك وألف مبروك، ونشارك العرسان وذويهم وأصدقاءهم فرحتهم، وندعو لهم جميعا بالتوفيق والسعادة. - ولكن...
لا يُفتَح حديث في الموضوع، إلاّ وهناك إجماع في التشكي من "واجبات" الأعراس: كم هناك من هدر للوقت، في زمنٍ أصبح مقياس الوقت فيه لا يُعَدّ بالسنين والشهور، بل ولا بالأسابيع والأيام، بل بالساعات والدقائق، وبميكرونات الأجزاء من الثانية. فلنحسبْ حجم الوقت الضائع لدى العروسين والأهل على مدى تلك الإعدادات الطويلة، ولدى جماهير المهنئين، سواء في التنقلات أم المشاركة في الحفلات - كم هناك من إحراج لكثير من المدعوين، الذين يستدينون أحيانا للقيام بواجب "التنقيط"، وما ان يقوم أحدهم به، حتى يأتيك هامسا ان الدعوة التي كانت قد أُرسلَت اليه، ما هي في الواقع الا "تشليح" مهذّب. – كم هناك من هدر للأموال، يكون العروسان وذووهما قد تعبوا عمرًا لتجميعها، ويستفيقون فجأة ليجدوا انها في الواقع قد تبخرت في غير ما جُمعَت لأجله. – كم هناك من هدر في الطعام والشراب، على موائد البطَر والتخمة، فيما هناك، وليس بعيدا عنك، كثيرون يبحثون في حاويات النفايات عمّا يسدّون به جوعهم وجوع أطفالهم. - كم هناك من هدر للصحة، نتيجة التعب والسهر، والتوتر وحرق الأعصاب، لا فقط لأصحاب العرس، بل أيضا للجيران ومَن وراء الجيران، الذين عليهم أن يتحملوا "التعاليل" المزعجة، ومكبرات الصوت المجلجلة، ومزايدات إطلاق النار والمفرقعات المدوية، مما لا يرحم طفلا بحاجة الى نوم، ولا مريضا متألما يبحث عن إغفاءة هادئة، ولا محزونا فقَدَ عزيزا...- كم وكم وكم... اللائحة طويلة. ولكن أليس عارًا على شعب برمّته، أن يُجمِع على شجب وإدانة امور تُلحِق به الضرر الكبير، ثم لا يجرؤ على التصدي لهذا الضرر.

ويعود العروسان بالسلامة من شهر العسل. ولكن ماذا بعد ذلك؟ هناك، والحمد لله، عدد لا بأس به من عائلاتنا السعيدة. نرجو لها دوام السعادة، وعسى ان تكون عائلة العروسين الجديدين واحدة منها. ولكن كم هناك غيرها يعاني، ويعاني الكثير. فهناك العائلات المحطمة بالطلاق او بإعلان بطلان الزواج، وكانوا قد ظنوا فيه الخلاص، فإذا هم "من الدلف لتحت المزراب". وهناك العائلات التي لا تزال رهينة المحاكم الدينية او المدنية التي لا تنتهي، فهم في حكم "اللامعلَّق ولا مطلَّق"، بين فصل أو هجر، موقّت او دائم، وما يرافقه من امور النفقة او الرعاية، والتمزق النفسي للأولاد عبر خلافات الوالدين؟ وهناك العائلات المتسترة في الظاهر على مآسيها الداخلية، لئلا تنكشف فتُفتضَح في المجتمع، بينما هي تعيش في الداخل جحيما لا يطاق. وهناك وهناك وهناك... أفلا يُخشى ان نكون، لا سمح الله، قد زججنا بعائلة العروسين الجديدين في بحر هذه العائلات الكثيرة، التي حلمت بالسعادة، فما وجدت الا الشقاء والتعاسة؟

 

ومَن المسؤول؟ الزواج لا يُرتَجَل ارتجالا. انه مشروع فردي-ثنائي-اجتماعي- يقوم في جوهره على الإنسان في مختلف أبعاد شخصه البشري، جسديا ونفسيا وروحيا. ومن المفروض في الزواج أن يكون تتويجا لمرحلة طويلة من النضج التدريجي، تبدأ منذ الطفولة، مرورا بالمراهقة، حتى الشباب. - وللبيت والمدرسة، والمجتمع المدني، والمؤسسة الدينية، كنيسةً كانت ام جامعا ام خلوة ام كنيسا، لكل منها، وفي كل من هذه المراحل، دور ومسؤولية خاصة، لكي تساعد الإنسان على معرفة نفسه معرفة حقيقية عميقة. "إعرف نفسك"، كان ذاك هو مدماك الفلسفة الأول، في عرف سقراط أبي الفلسفة. فماذا يعرف شبابنا وفتياتنا اليوم عن أنفسهم؟ قد يجبهونك بالكمّ الهائل من المعلومات التي يزوّدهم بها الحاسوب عن كل العلوم. ولكن المعلومة الحسابية شيء، ومعرفة النفس شيء آخر: ألا قل لمن يدّعي في العلم معرفةً : علمتَ شيئا وغابت عنك أشياءُ. فهل وعت المؤسسات المذكورة أعلاه أهمية دورها في مرافقة الأجيال الطالعة، لمساعدتهم على اكتشاف ومعرفة أنفسهم؟ وهل وعت ثقل المسؤولية في التقصير عن هذا الواجب؟

 

ومعرفة الإنسان نفسه هي المفتاح لمعرفة غيره. فكيف لمن نقصته معرفة نفسه كفرد  أن ينفتح على الآخر، ليعرفه في العمق في بُعدٍ ثنائي ؟ علامَ تقوم في الغالب العلاقات الثنائية اليوم بين "متحابَّين"؟ "نظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء". بأي سرعة وخفّة وسطحية تجري الأمور في الغالب لإقامة مشروع الزواج! هل تمّ "تعارف" حقيقي بين الطرفين؟ طبعا نحن هنا لا نتكلم عن شاب وفتاة يقرِّر لهما الزواجَ غيرُهما بدون تعارف، وإن هي حالات لم تختفِ بعد بالتمام. ولكن على وجه العموم، هل يدرس الطرفان معا، زمن التعارف، حقيقة ما هما مقدمان عليه؟ هل يعيان ان الزواج ليس لعبة أو تسلية، ولا تبادل مصالح او مكاسب، ولا هو عرض لمظاهر فخفخة خارجية، تُلهي عن التأمل الرصين في جدّية المسؤولية الجديدة ؟ وإلاّّ فمَن يبنِِ على الرمل، فسريعا ما ينهار بناؤه. وهل نعجب بعد ذلك أن نرى هذا العدد الكبير من زواجات فاشلة، وأُسَرٍ منهارة ؟                 الزواج هو قمة التكامل الإنساني، الذي يجعل من الاثنين واحدا، على صعيد الجسد والنفس والروح. انه ارتقاء متواصل في اكتشاف قلب الآخَر، والولوج الى أعماق نفسه ، بغية تجلّي الحب الشفّاف النقي، القائم على العطاء والتضحية، ونبذ ال"أنا" لتذوب في ال"نحن". ذاك هو الحب الحقيقي، المنبثق من مصدر الحب، "الله المحبة"، الذي "منه اقتران الرجل والمرأة"، لسعادتهما وتحقيق انسانيتهما، ضمن مجتمع بشري، مسؤول عن نمائهما الإنساني، كما هما منه، ومسؤولان عن نموّه وازدهاره وسعادته. وكل زواج لا ينطلق من الله، واضع  الزواج وأحكامه، ولا ينتهي  اليه، فهو حتما مشروع فاشل.

 

وان كان قارئي مسيحيا، فأذكّره ان الزواج في عرفنا ليس مجرّد عقد (لأن من أبرما عقدا عن رضى، فعن رضى يستطيعان أيضا فسخه)، بل هو عهد، على نحو عهد الله الذي لا ينكث بعهده. إنه عهد الحب المبادِر، المجاني، المضحّي، الأمين،الصبور، المتفهم، الصافح، المتجدد كل يوم، الذي جمعه الله فلا يفرّقه إنسان.. وهنيئا لعروسين يدعوان الى عرسهما يسوع وامه، فتكون الأم ساهرة على الأسرة الناشئة، ويكون يسوع السند والصديق، بركة في ايام اليسر والصحة والتوفيق، وفي ايام العسر تعزية وقوة، يحوّل مرارات الضيق والمرض والمعاكسات، الى حلاوة حضوره وعذوبة لقائه، تماما كما حوّل الماء الى خمر، في أول معجزة له في عرس قانا الجليل.

 

 

 Copyright © 2009-2024 Almohales.org All rights reserved..

Developed & Designed by Sigma-Space.com | Hosting by Sigma-Hosting.com